طلاق الفن والسياسة

جمال سامي عواد – كاتب وباحث موسيقي سوري

كان من الطبيعي جداً أن يمشى في جنازة عبد الحليم حافظ أكثر من ربع مليون شخص بشكل بالغ العفوية.بالإضافة إلى عشرات الجنازات الرمزية التي أقامها الناس في كل بقاع الوطن العربي، و التي  لا تقل شأناً في صدقها و عفويتها عن جنازته في القاهرة. هذا اهتمام بالغ جداً بحد ذاته إذا أهملنا حوادث الانتحار الناجمة عن وفاته آنذاك، وهو شيء نادر الحدوث في العالم العربي. ولعل جنازته بمعايير معينة قد تساوت أو تفوقت على جنازات الكثير من  الزعماء و الرؤساء والملوك و رجال الدين.

وقد يبدو مستغرباً ذلك العرض الخيالي الذي تلقته السيدة فيروز للغناء في أحد  العواصم العربية مؤخراً. و بعد رفضها للعرض قدِّم لها عرض خيالي آخر لكي تحضر تكريماً يقام لها هناك بدون أن تغني، و مع ذلك تم رفض العرض. ولن ننسى ذلك الاهتمام الشعبي الواسع بشخص فيروز و بردود أفعالها و مظهرها و كبريائها في مقابلتها للرئيس الفرنسي ماكرون عندما طلب زيارتها، لدرجة أن الحدث كان “فيروزياً أكثر مما هو ماكرونياً”، وكان من الطريف أن  ينتقدها البعض على قبولها بلقاء الرئيس الفرنسي.

الأطرف من الأمثلة السابقة عن شهرة وقوة بعض الفنانين، أن أم كلثوم استطاعت في عهد جمال عبد الناصر أن تعيد طائرة بعد إقلاعها من مطار القاهرة، و هو ما لايستيطع فعله مسؤولون كباراً آنذاك، لأن الطائة كانت تحمل على متنها ” الواد عظمة” (عازف الكنترباص في فرقتها عباس فؤاد) الذي غادر القاهرة بدون إذنها. و هناك حادثة أخرى تدلل أكثر على قامة و أهمية أم كلثوم ، عندما رضخ القصر الملكي لرغبتها في عدم تعديل كلمات بيت من أبيات القصيدة التي لحنها رياض السنباطي أثناء تسجيلها ،حيث كان القصر الملكي قد أرسل مندوباً يطلب فيه حذف بيت يتضمن كلمة “اشتراكية” من قصيدة “ولد الهدى ” لأحمد شوقي.و لكن أم كلثوم رفضت ذلك، و تم تسجيل الأغنية بالشكل الذي أرادته للقصيدة.

منذ مدة قصيرة، استفاق الناس على حدث وفاة وديع وسوف، نجل الفنان السوري جورج وسوف، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات المواساة و الأسف، و قد أدهشتنا تلك المحبة و التعاطف و المشاركة بالحزن التي نالها جورج وسوف من الناس بشكل تلقائي وعفوي و صادق إلى أبعد الدرجات، بمن فيهم ما يمكن تسميتهم بخصومه الفنيين و السياسيين، الذين عجزوا عن إلقائه في زنازين التعتيم الإعلامي، فما يملكه من محبة الناس يفوق قدرة أي محاولة للإعتام أو الإبعاد بالرغم من عدم قدرته على الغناء حالياً.

من مهام الفن وباقي الأنشطة الإنسانية الراقية تقديم  الحلول و تقريبها من متناول الساسة، بوصفه أداة تستخدم وسائل قابلة للتذوق الجمالي

الأمثلة السابقة، تبين بمقارنات بسيطة، الفرق في القدرة على كسب محبة الناس بين الفنان ورجل السياسة. ويبدو من المقارنة أن الفنان الحقيقي هو الفائز عند النظر إلى “قدرات ” رجل السياسة على إظهار عكس ذلك. إذْ  كيف يمكن  لشخص لا يمتلك الجيوش و الأموال الطائلة و أجهزة المخابرات أن يمتلك قلوب الناس و عقولهم إلى هذه الدرجة؟

قد يحيلنا هذا إلى إشكالية العلاقة بين الفن و السياسة عبر العصور، و مدى التأثير المتبادل بينهما.

إذا اخذنا الجانب الغائي للسياسة، وبعيداً عن السياسة كما تتم ممارستها الآن في معظم دول العالم، فإننا نلخص علم السياسة بأنه علم يهدف إلى تحقيق أعلى درجات الكفاية و الأمان الجمعي لمجتمع معين، والسياسة بهذا الوصف فقط، تعتبر نظرياً من أرقي الأنشطة الإنسانية على الإطلاق، لأن ممارستها تتضمن استثمار كافة منجزات الأنشطة الإنسانية الراقية الأخرى بما فيها الفن. غير أن  تضارب مصالح المجموعات الإنسانية الكبرى الناتج عن قلة الموارد و جنوحها للندرة و النضوب أحياناً، يجعل من السياسة السبب الأول للحروب  التي تهدد بدورها البقاء الجمعي، مما يجعل السياسة نقيضاً لغاياتها في هذه الحالة. هنا بالضبط يأتي دور الفن و باقي الأنشطة الإنسانية الراقية في تقديم  الحلول و تقريبها من متناول الساسة، بوصفه أداة تستخدم وسائل قابلة للتذوق الجمالي بهدف التعبير عن الحاضر، والتأريخ للماضي، وتخيل واستشراف المستقبل وإن بطريقة خيالية كالتي ظهر لنا فيها بساط الريح في الحكايات القديمة. و هذه الميزات التي يتمتع بها الفن ناتجة حتماً عن الحرية الداخلية التي تتمتع بها الموهبة الفذة، و التي لا يمكن للإبداع أن يحدث بدونها.

فهل حدث عبر التاريخ أن استعان الساسة بالفن بما هو كذلك تحديداً؟

تاريخياً، يبدو  أن الساسة طالما تجاهلوا تماماً رسالة الفن، و ضربوا عرض الحائط بكل منجزاته المتجسدة بتقديمه مجسات في غاية الرهافة و الجمال  للقياس و التقييم و التنبؤ. و لم يكتفوا بالتجاهل فقط، بل عكفوا في كثير من الأحيان إلى اضطهاد الفن و الفنانين. ثم اهتدوا فيما بعد إلى وسائل أكثر لطفاً مثل شراء الفن أو ترويضه أو رشوته، لامتصاص ذلك المخزون الهائل من محبة الناس و ميلهم للفن. و هذا هو بالضبط السبب الأهم للعلاقة المضطربة بين الفن الحقيقي و السياسة.

وحسب ما سبق من عرضٍ مختزلٍ جداً، نستنتج أننا كمجتمع إنساني، بعيدين جداً عن عالم تكون فيه السياسة (عملياً  لا نظرياً)، أرقى الأنشطة الإنسانية على الإطلاق بالنظر إلى الهدف العظيم لها، لأن  معظم الساسة المسيطرون على العالم،سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات، بعيدون جداً عن ممارسة السياسة كفن يمتلك ما تمتلكه بقية الفنون من جماليات ظاهرية وباطنية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.