سوسن الزّعبي.. حين تصرخ الّلوحة “أنت في حضرة دمشق”

أمامة أحمد عكوش – كاتب وصحافي سوري

 عندما يكون الفنَّان التَّشكيليّ مبدعاً وامرأةً في الوقت نفسه فتلك قصَّة أخرى، والأمر لا يتعلَّق هنا بوجهة نظر تُخفي تحيزاً ذكوريّاً بأيِّ شكلٍ من الأشكال، بل هو الانحياز بالمقابل نحو المرأة ذاتها، حِين يكون الفنان امرأة تجد الأمور وكأنَّها في نصابها، وكأنَّك تقول: “هذا أصلاً ما ينبغي أن يكون”. فعلى الرَّجل، كي يدخل عالم إنتاج الفنِّ والجمال، أن يخلع عنه إرث ذكوريّته الممتلئ بكلِّ ما يضادّ الجمال، الممتلئ بالحروب والصِّراعات والتَّنافس والخراب الذي تصنعه قدماه حيث يسير. أمَّا المرأة التَّشكيليّة فكأنَّها تقوم بسيرتها اليوميّة حين يتحوَّل الجماد بين يديّها إلى حياة، والخيالات الجميلة إلى جمالٍ حقيقيّ. وهو تماماً ما تظنُّ سوسن الزّعبي أنّها تفعله عبر لوحاتها _ وظنونها هنا ليست إثماً – هيَ اليقين.

رسم الجَلال!

سوسن الزّعبي ابنة دمشق، امرأة وجدت نفسها منذورة منذ لوحاتها الأولى لأجل المدينة التي أحبّتها وفضّلتها على سائر المدائن، وسرّ النّذر كما تقول الزّعبي نفسها: “نذر لن ينقضي.. ومهما فعلت لشمسي وشمعتي شآمي فلن أعطيها حقّها”. لذلك يطيب لها أن تكرر آيتها الأثيرة دائماً: (اخلعْ حذاءكَ أنت في حضرة دمشق.. فالتّاريخ الذي يدخلها حافياً، لا يسمح لأحد أن يدخلها منتعلاً).. أمّا التّفسير فهو ما تعلّق به دوماً في كلّ معرض من معارضها أو من خلال إطلالاتها؛ بأنّ دمشق مقدّسة، وبأنّ كلّ الأدوات في لوحاتها؛ من الرّيشة، إلى الألوان، إلى الأرضيّة التي يقطنها شخوصها، إلى حجارة دمشق القديمة وأبوابها ونوافذها.. يصرخون بذلك، ولا قدسيّة لغيرها “دمشق” كما لها في الكون.. كلّ الكون. ولعلّ الفنان لا يحسد شاعراً إلّا حين يكون الشاعر درويشاً، وتكون القصيدة عن دمشق، وتكون الكلمات: “في دمشقَ ينامُ الغريبُ على ظلِّهِ واقفاً.. مثلَ مئذنةٍ تنامُ في سريرِ الأبدْ.. لا يحنُّ إلى بلد أو أحدْ”. فكم من الألوان ينبغي أن تفسح لرسم كلّ هذا الجلال؟!

كولاج ..

بالعودة إلى الذكورة والأنوثة.. شجاعة الإقدام عند الرّجل هي المغامرة وتقليب الاحتمالات، والاطمئنان للحظّ، سواء من قليل أو كثير، أمّا شجاعة المرأة فيملؤها اليقين والثّقة، ولا حاجة للحظّ بما أنّ الأمور لن تكون إلّا على ما يرام، هكذا لا يخيب ظنّ التّجربة عند سوسن الزّعبي، فتستخدم الكولاج دون قلق، غير عابئة بسرّه الذي حيّر الفنانين منذ ولادته قبل قرابة قرن ولم يزل، لذلك فالكولاج في قاموسها الفنيّ من أساسيّات التّكوين، ولم يصبح كذلك؛ إلّا عندما صنعت فنانة دمشق مقصّها الخاصّ، ما جعل الكثير من النّقاد والتشكيليّين والمهتمّين يسمونها بـ “سيدة الكولاج” بين التشكيليّلات السوريّات، ورغم ذلك إلّا أنّ الزّعبي لا ترى في الكولاج بحدّ ذاته عملاً فنيّاً خالصاً، وخصوصيّة مقصّها أنّها تجمعه مع الزّيتي والإكرليك وغيرهما، إنّ اجتماع هذه الأدوات هو الذي يمكّن الفنان من البوح بتلك الأشياء التي لم يبح بها أحد من قبل. لذلك فالحداثة والمعاصرة في رأي الزّعبي ليستا خياراً في العمل الفنيّ، بل ضرورة لا بدّ منها، كي يصنع الفنان شيئاً جديداً، والأمر ببساطة؛ أنّ “الأدوات القديمة لن تنتج إلّا أشياء قديمة” وفق رؤيتها.

الرَّصاص ..

يبقى أنّ العمل الفنيّ الجديد ليس كالعمل الفنيّ الجميل، والإبداع لا يرتبط بإعادة إنتاج الجمال، بل في صناعته عن دون مثيل، ولأنّ الإبداع لا يمكن أن يكون حدثاً يوميّاً وعالياً في الوقت ذاته عند الفنّان، تؤكّد الزّعبي أهمية أدوات البدايات، وعلى رأسها قلم الرَّصاص وتكنيكه الذي لن ينقرض، فالرَّصاص أولاً هو بداية التَّعلم، وهو المرافق للتَّأسيس، وله ثانياً سرّه الغريب الذي يمنح الفنان القوَّة والثّقة. أما البوروتريه في قاموسها الفنيّ فهو الأداة القديمة المتجدِّدة، لأنّها نبض التّجدد للنَّاس وأحوالهم وما يشعرون به في كلِّ يومٍ وساعة. كما وأنَّ من صلب أيديولوجيّات الزّعبي التّشكيليّة، أنّها لا تعتقد أنّ الفنّ هو أن يدير الفنان ظهره للواقع كي يصبح فناناً، بل العكس، فالرّسم لديّها يعود إلى حالة المزاج، والمزاج هو أكثر الأشياء واقعيَّة، إنَّه الارتباط بما حولك دائماً _ الآن وهنا _ وحتى بالتَّجريد هناك واقعيّة، “الواقعيّة هي بوصلة الفنَّان الأكيدة” حسبما تقول.

سيرة ..

سنة 1961 كانت سوسن الزّعبي على أوَّل موعدٍ مع دمشق حين صرخة حياتها الأولى، وفي عام 1983 كانت ولادتها الثَّانية من كليّة فنونها، ثمّ أتمّت الثَّلاثين مع تمام أطروحتها للدكتوراه في فلسفة الفنِّ من جامعة ستروغونوف/ موسكو، لتعود إلى مدينتها المقدّسة رئيسة لقسم الاتصالات البصريّة في كليّة الفنون الجميلة بجامعة دمشق، شاركت في العديد من المعارض الفرديّة والعربيّة والعالميّة، أعمالها مقتناة من قبل العديد من المجموعات الخاصة، ومن قبل وزارة الثقافة السورية والجمعية الكويتية للفنون وغيرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.