“زهايمر” – كيف ينتهي هذا النفق؟ – وداد سلوم

وداد سلوم – شاعرة وكاتبة سورية

ليس النسيان ما يؤلم، فالنسيان قد يكون غنيمة، غيمة بيضاء تحيط بالماضي ، استرخاءٌ للتفاصيل على أرجوحة التذكر، وخلط الأحداث بالأحلام الفائتة،  لتغدو لذة إمطار الذاكرة تفوق الحاضر .

الحاضر الذي يمتلكنا بوهم القدرة على التحليق وتحرير اقدامنا في طموح جارف للوصول ومعانقة خط النهاية كأننا في سباق محموم بينما سيصل الجميع بلا استثناء إلى ذلك الخط العريض الذي يموّه هاوية العدم.

ليس النسيان ما يؤلم،

ما يؤلمنا أن يمسح العدم وجه الحاضر، وأنت بكامله.

أن يجتمع الموت مع الحياة في جسد واحد، كأن تنمو للعدم مفاصل داخلك، يد سوداء بل أيدٍ كثيرة، يمنحها له الزمن، لا تعرف كيف تأتي أو متى ، تتمدد في الرأس تماماً، وتبدأ بالمحو بلا هوادة ، تمحو الأسماء ، الأماكن ، الأحداث، الذكريات، الحنين، والمشاعر.. تمحو وتمحو, رويداً رويداً كل شيء. ملقية حياتك الحقيقية في بئر لا نجاة منها.

كل ما يشكلك يتآكل تحت يد العدم السوداء.

لتغدو غريباً في حاضرك وعن ماضيك، إذ يتوه منك العمر ويفقد معناه بموت المستقبل، أنت مجرد جسد يتنفس ويتحرك. و الأشخاص هياكل لا تعنيك.  ها قد أفرغ ما بداخلك و كل اشارات التواصل مع المحيط.

تنسى النوم  والطعام ، الشبع والشراب، تنسى الأصدقاء، تنسى أسماء الأولاد والأحفاد، بينما تتذكر موتاك وتجالسهم ، تسايرهم وتختلف معهم وتسرد أحداثاً معهم لا احد يعرفها سواك. تعاتب أخاك الميت بينما تنظر في وجه ولدك ولا تعرف اسمه.

هاجسك العمل الذي أكل كتفيك بلا رحمة، أنت لا تعرف أنك عجوز ولم تعد قادراً على الوقوف الطويل الذي يقتضيه عملك القديم في (تلييس) الجدران والسقوف، وتسخط لأن أدواتك ضاعت, وهذا العمل ينتظر الإنجاز.

غريب أنت لا الدار دارك ولا البيت بيتك ،  ولا السكان أهلك ، لا هذه زوجتك ولا هم أبناء ، لا الدروب ولا الجهات نفسها . تحن للجميع البعيد وللبيت القديم وانت فيه وبينهم دون ان تدرك ذلك، لم يبق لديك سوى الخوف.

الخوف  الذي ينمو باضطراد تربيه بينك وبينهم. الخوف منهم ومعهم. من سلاح سيقتلك, من الذبح  الذي لفرط ما تخشاه لا ترفع رأسك مخافة ان تتعرى العنق امام سكين غادرة

الخوف من أيدي الأبناء، من يد رفيقة العمر، غريب أنت وتخشى كل شيء، حتى الوهم الذي تعيشه ليتك تملكه فها هو يتبدل كل حين ولا يترك لك فرصة التعلق بأمل. من محا داخلك بهذه القسوة وتركك للخواء والأوهام ؟ أي إنجاز فعلته أيها العمر؟

كل ما تطاله يداك يحتاج إلى إصلاح الكنبة والطاولة والباب والسرير كل ما تراه تود قَلبه وطرقه ونزع مساميره كأنما تريد إصلاح هذا العالم المقلوب في رأسك وإعادته إلى سَمته الصحيح،  ففي داخلك تعرف أن هناك خطب ما، هناك مَن عبث بالأشياء في رأسك على حين غفلة و غادر دون أن يعيد الترتيب .

أنظرُ إلى ابتسامة التهكم التي ترافقك وأنت تسرد أشياءَ لم تحدث وتذكر أناساً غادروا من زمن بعيد ، ابتسامة العارف بخلل دون  أن يعرف تحديده أو إصلاحه ، ابتسامة الحائر والطالب مغفرة من الآخرين لسوء الفهم الذي يدرك حدوثه دون معرفة السبب. ابتسامة الطفل الذي لا يعرف ما ذنبه لكنه يعرف أنه لم يفعل الأشياء على ما يرام أمام نظر الكبار.

كل ما تطاله يداك يحتاج إلى إصلاح الكنبة والطاولة والباب والسرير.. كل ما تراه تود قَلبه وطرقه ونزع مساميره كأنما تريد إصلاح هذا العالم المقلوب 

ليس النسيان ما يؤلم ،

مؤلم أن يبحث الأبناء عن نظرة الأبوة الحنونة فيجدون عيوناً فارغة من التعبير، أن يسير الهلع على قدميه بجسد أب.

أن يطال النسيان أول ما يطال اسم الزوجة رفيقة العمر  فتعيش معك لحظات النكران الأولى ، لحظات رفض وجودها بالقرب ، لأنك وفيٌّ لامرأة بالبال لها ذات الاسم،. وتكتفي بسكناها  في البال .

أن يصبح الابن أباً لوالد صعب المراس ، أن تغدو كلماته المستقاة من الخيال مضحكة ، أن يلجم الأبناء ضحكتهم بينما تتقدم الدمعة جلية في العيون .

ليس النسيان ما يؤلم ،  مؤلم أكثر أن تتخيل في كل زاوية أو نافذة أو دهليز باباً للخروج تسعى إليه فراراً  فتصطدم بالجدران كأنما حياتك محض نفق مظلم وتريد الخروج من أي ناحية يتبدى فيها  لخيالك طريق.

على النفق أن ينتهي، لكن الجدران التي رافقت حياتك الجدران التي كنت تبنيها وتطليها بطبقة الاسمنت دون توقف بحثاً عن لقمة العيش . الجدران العالية  ترتفع الآن في رأسك، تغلقه  وترفض الانهيار .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.