حبل غسيل الجارات والسور الخانق – محمد البواب عن عدنان الصائغ

محمد البواب – كاتب وشاعر سوري

 

 

 

 

 

 

 

 

على قوسِ الصباحْ

تنشرُ المرأةُ

غسيلَ أيامها….

بهذا المشهد الدافئ افتتح الشاعر عدنان الصائغ قصيدته (حبل غسيل)، ربّما تخيّل صباحاً تعاكس الشمس نسيمه وامرأة تلملمُ ملابسَ أولادها وتلاحق مخلّفاتهم التي نثروها وراءهم، فتغسلها بغسالةٍ أوتوماتيك أو بيديها القاحلتين… لا فرق!   

تستعرضُ شريط مخططاتها ليوم متعبٍ آخرٍ، الطبخ والنفخ والتنظيف والمرور بالبقالة وجلب الخضار، يقتطع الشريط صوت جارتها أم حسين من شرفتها المقابلة…. يسعد صباحك يا أم أحمد… القهوة اليوم عندي أو عندك؟ تلتقط الجارات موجات كلمة القهوة على بُعد شبابيك عديدة، يتّفقنَ على شربها معاً بعد ربع ساعة في منزل أم حسين بعد أن يفرغن من نشر الغسيل ثم يتّجهنَ إلى السوق!

تهتاج إحداهنّ على بلوزتها الحمراء التي تحللَ لونها في الغسّالة، تواسيها أخرى بمصيبتها وتفرد لها بجامتها الساتان التي كشّت في الغسيل ولم تعد تتسع لأردافها، تلمح أم أحمد صبري ابن السادسة يندفع لقطع الطريق وهو ثملٌ من بون جوس البرتقال الذي يشربه، تصرخ ملء صوتها ليتسمّر قبل خطوة من دعسه الحتميّ!

يشكرن الله على نجاته وتتوعدهُ أمّهُ بحفلةِ عقابٍ تليقُ بغفلته ثم تودّعه لشرب القهوة مع جاراتها لسردِ مواجعَ تعوّدنَ نفخها مع دخان السجائر في اللمّات الصباحية. اقتراحات لطبق الغداء… شكاية إهمال الزوج وتقصيره، سهر الرجال على لعب الورق…. الفراش البارد في غيابهم… نجاح البنات والأولاد أو رسوبهنّ!

وهكذا حتى يقرع الوقت جرسه منبّهاً بضرورة التعجيل إلى السوق فتنتهي حصّة الفضفضة إلى لقاءٍ قريب.

ربّما كانت فيروز تغني وقتها: الحلوة دي قامت تغسل في البدرية!

لم يخطر ببال أحدٍ أن حبال الغسيل ستُحال إلى التقاعد وتستبدلُ بمنشر معدني يفتح أجنحته الباردة ليحمل الملابسَ ضمن غرفة مغلقة دون أن يبادلَ صاحبها فكرةً أو يفتح معه حديثاً أو يؤسس لجلسة قهوة غزيرةٍ بالثرثرة!

قضت مواقع التواصل الاجتماعي على اللمّات الصّباحية، وقيّدت الاتصال البشري في زجاجة مغلقة، فبدلَ الصباحِ الطلق والحبال المُثقلة بالأزياء الملوّنة التي يمرجحها الهواء والأخبار الساخنة التي يتقاذفها الناس، تدلّت فكرة المعرفة الانفرادية وعرّشت في العقول.

إذ لا ضرورةَ للغسل وفتح الشبابيك والتعرّض للشمسِ والهواء من أجل معرفة أخبار فلانة أو رؤية وجه فلان منذ الصباح الباكر!ففي هذا العصر رسالةُ واتس أب أو منشور على الفيس بوك تقرأه في دقائق كفيلٌ بنشر غسيل عائلة بأكملها النظيف منه أو المتّسخ!

وكذلك أخبار نجاح الأولاد أو رسوبهم والمشكلات الزوجية والارتباطات والفتاوى وتفسير المنامات وأسعار المهور وافتتاحات المطاعم ودعوات الزفاف وعروض الأسواق والفضائح والمقالب ووو..كلّها متناثرة على رصيف التصفح لا تحتاج إلا لسبّابةٍ تُقلّبُها!

فبعد اليوم لن يُنقذَ صبري من السيارة التي ستدعسه إذِ الجارات منشغلاتٌ بالجوالات عن شُرفاتهنَّ والرجالُ يقلّبونها أثناء قيادة سياراتهم!

ولن أبالغَ لو تعاملت مع مطلع قصيدة الشاعر عدنان الصائغ على أنّها:

على مواقع التواصل

ينشرُ النساءُ والرجال

غسيلَ أيامهم!

مُشاعٌ كخانٍ يدخله القاصي والداني وباردٌ من كنكنةِ القلوب ودفءِ الوجوه المتلهفة، رفعَ الزمن الرقمي سقفه عالياً في وجه العلاقات البشرية وقزّمها حدّ انعدامها إلا قليل!

في قُرى السودان الحزين يُعاب على المرء إن رفع سور داره أعلى من نظر المشاة العابرين، إذ يفسّرون عُلوَ السّور بالرغبة في صدِّ الناس عن داره فلا يدخلونها حتى يهدم سوره!

تُرى كم متراً بلغَ إليه السور الذي أحاطَ بيوتنا وشبابيكنا وفرّقنا عن بعضنا البعض!

الشاعر العراقي عدنان الصائغ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.