الناس تحبّ القصص.. وكلٌ منهم يصنع قصته

الناس تحبّ القصص، تحب النتوءات وما ضفر من الكلام أو طفر لتعلّق عليه حكاياها ومخاوفها وما تحبّ أن تضيف من دواخلها ومكتسباتها وقناعاتها في كل ما يقبل التأويل والتحميل والتجميل. لا أحد يحبّ أن تتشابه روايته مع أحد.

لذلك؛ وأنت تلمّ صدف الحقائق من الأمكنة، عليك أن تميّل نحو المقهى المقابل لتسمع الوجه الآخر للحكاية من البحارة المتقاعدين والمسنّين الذين خمرّوا السالفة ولاكوها آلاف المرات وتنصت جيداً كيف سيعيدونها إليك.

المؤرخون كذلك الأمر، هم بحارةٌ قدامى، الرحالة مثلهم، الصوفيون أيضاً، الصامتون، الحكّاؤون، الماكثون والمسافرون، كل هؤلاء بشكل أو بآخر لا يريدون أن تتطابق حكاياهم مع حكايا الآخرين، هذا جزءٌ من أهميتهم وإلا لماذا يدوّنون طالما كل شيء قد كتب ودوّن؟

بين ابن الأثير وابن الكثير مئة عام، بين “الكامل في التاريخ” و”البداية والنهاية” حوالي سبعين عاماً، ذات الحوادث والأيام والتراجم والمواقع والرجالات. الاختلاف بالتصديف فقط، الاختلاف في النقش، في التفكيك والتركيب، حتى لتقول في نفسك إن تاريخ كل منهما خاص به وحده.

لا أحد يحب أن تتشابه روايته مع أحد

أمرَ النعمان بن امرئ القيس ببناء قصر الخورنق جنوب العراق ليكون تحفةً للناظرين، وجلب إليه خيرة الصناع والحرفيين تحت إشراف كبير مهندسي بيزنطة “سنمار”، مانحاً إياه الرخص والتسهيلات التي يريد، وبالتوقّـفات التي يراها على مزاجه، حتى يقال إن بناءه استغرق ستين عاماً، وقد قام عالم الآثار “رايد انكد” من أوكسفورد بالشراكة مع الباحث المعروف “طه باقر” بإجراء مسح لمنطقة الخورنق أول ثلاثينيات القرن الماضي معتمديْن على ألواح شعرية في الاستدلال على موقع القصر الذي اندثر، ووقعا على بقايا القصر من أبراجٍ وسور وحصن وأعادا رسم مخططات تلك الجوهرة المعمارية الفريدة.

تحكي الكتب المعتمدة جميعها إن سنمار المعماري في يوم افتتاح القصر قال للنعمان: إن في القصر “آجرّةً” واحدة إن أزالها تهدّم القصر كله، فأجابه النعمان: ومن يعرف مكانها غيرك؟ قال سنمار: لا أحد بالطبع أيها الملك. فأمر النعمان برمي سنمار من فوق القصر حتى لا يذاع هذا السرّ ويدفن معه! ولهذا جرت الحادثة في أمثال العرب إذ يقولون: جزاه جزاء سنمار، في دلالةٍ على الجحود والخيبة والمكافأة بعكس الصنيع والأفعال.

الناس اليوم، رغم البعثات العلمية والبحث عن المخططات المفقودة والحقائق والأرقام، تركت كل شيء ولم تفكر إلا بهذا النتوء الطافر فوق الرواية. نُسي الخورنق وامّحى كله عن بكرة أبيه ولم يبق إلا أسطورة الآجرة الملفّقة التي تهدّم القصر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.