(نفيسة البيضاء .. الجميلة الثرية حاكمة الظل)

15 سبتمبر 2023

سامح محجوب – نص خبر

لا تاربخ ولا رواية رسمية يمكن أن تطمئن إليهما فيما يخص الأشخاص الذين خرجوا من متن السرديات التاريخية إلى متن السرديات الشعبية خاصة من اقتربوا من الناس وتحوّلوا إلى طواطم تغذي المخيلة الشعبية المتعطشة طيلة الوقت لبطل ملحمي يعوّض خيباتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .. هكذا الحال فى كل ما يتعلّق بالست (نفيسة البيضا) بلا همز أو نفيسة هانم البيضاء أو نفيسة قادين أو نفيسة خاتون أو أم المماليك،
الست نفيسة إحدى الكبيرات المحسنات اللائي ظهرن فى المئة عام الأخيرة من الحقبة المملوكية فى مصر.
.

لا يعرف متى وأين ولدت على وجه الدقة لكن أغلب الروايات تُجمع على أنها تنتمي لأصل چركسي وقد جُلبت إلى مصر مع عدد كبيرمن الجواري من الأناضول أو بلاد القرم أو حدود القوقاز وهذه الأماكن تقريبًا كانت مصدر الموارد البشرية لمن يدخل أو يدخلن بيوت المماليك -حكّام مصر آنذاك – للعمل كجنود أو جواري أو حريم أو محظيات أو أغاوات ولم تذكر أي من المصادر التاريخية أن المصريين كانوا يعملون فى هذه المهن ،
وكانت نفيسة بيضاء البشرة بصورة ملفتة للنظر وربما هذا هو السبب الأرجح لفوزها بلقب البيضاء ! كما كانت تتمتع بحكمة وذكاء وسعة معرفة وعلم ؛الأمر الذي سهّل لها مهمة الوصول بسرعة كبيرة إلى مخدع وعقل علي بك الكبير أول مملوكي تجرأ وشقّ عصا الطاعة وانفرد بحكم مصر بعدما وقعت تحت حماية السلطنة العثمانية عام 1517 بعد حرب شرسة وقعت رحاها على تخوم القاهرة بين آخر حاكم مملوكي مستقل ( طومان باي ) والسلطان العثماني سليم الأول الذي دخل مصر على جثث أهلها بمذابح لم يعرف لها التاريخ مثيل .

ولم تدخل البيضاء قلب وعقل الباشا فقط بل دخلت السيرة الشعبية من أبوابها الواسعة خاصة بعدما أعتقها على بك الكبير وتزوجها وأقطعها الكثير من الأملاك وبنى لها بيتًا منيفًا يطل على بركة الأزبكية بدرب عبدالحق حي الحكّام وكبار رجال الدولة فى هذا الزمان .. ودخلت البيضاء طورًا آخر من الحياة وسط جيش من الخدم والحشم وفرسان المماليك الأشداء ممن يقومون على حراستها وحراسة أملاكها ، لكنها ورغم ذلك كله استطاعت أن تحتفظ لنفسها بمكان ومكانة كبيرين وسط الحّكام والمحكومين .
تعلمت نفيسة البيضاء العربية في وقت مبكر كما كانت تجيد التركية قراءة وكتابة وكلاما، هذا إلى جانب معرفتها بالفرنسية نتيجة تعاملها المباشر من التجار الفرنسيين من خلال وكالاتها التجارية التي كانت بمثابة شركات عملاقة فى ذلك الوقت .

 

لكن لم يكن للأمور أن تسير هكذا خاصة فى حياة الأبطال التراجيديين من أمثال نفيسة البيضاء التي ستعلب أدوارًا كبيرة ما كانت لتحسب لها حسابًا ، كان أولها مقتل زوجها وولي نعمتها علي بك الكبير على يد صديقه الأقرب محمد أبوالدهب بمساعدة مراد بك الذي اشترط أن تكون نفيسة ثمن خيانته حيث أنه كان من عشّاقها الكبار منذ أن رآها فى بيت علي بك الكبير لأول مرة ، وتنتقل البيضاء إلى منزل زوجها مراد بك بميراثها الذي ورثته عن زوجها السابق علي بك الكبير وكان ثروة طائلة زادت بهدايا وهبات مراد بك فازدادت ثروت البيضاء وعاشت حياة الترف والغنى بأملاكها التي شملت العديد من البيوت والقصور والوكالات التجارية وجيشًا خاصًا من 400 مملوك لحماية ممتلكاتها وقصرها وأسطولاً من خمسة سفن تجارية في النيل، و56 جارية يعملون على خدمتها.

ورحل أبو الدهب وانفرد مراد بك -بعد صراع مع العثمانيين – بحكم مصر بالمشاركة مع إبراهيم بك لمدة عشرين عامًا حاولت خلالها نفيسة البيضاء الحدّ من فساده وطغيانه خاصة مع التجار الأوروبيين، المظالم التي شكلت فيما بعد ذريعة قوية للحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وذلك بعد هزيمة مراد بك وهروبه للصعيد مع بعض مماليكه فى الوقت الذي رفضت فيه نفيسة الفرار معه وبقيت بالقاهرة واستطاعت بدهاء شديد أن تحافظ على أملاكها وأملاك زوجها الهارب كما استطاعت أن تفتح قنوات اتصال مع نابليون وحملته مما سمح لها بمساعدة أسر المماليك الذين فروا مع مراد فكان أن زاد نفوذها بينهم وحظيت بمكانة كبيرة بين الفرنسيين والمصريين .

ويرفض مراد بك التعاون مع نابليون فيضيّق الأخير على المماليك وتسوء العلاقة بين نفيسة والفرنسيين ويتم مصادرة أموال المماليك وتحتضنهم نفيسة أكثر وترعى حريمهم في بيتها، وتَعيّنَ عليها أن تدفع فدية ضخمة (حوالي مليون فرنك فرنسي) مقابل الإفراج عن نساء المماليك وصيانة حرمتهن، مما يضطرها للتنازل عن ساعة ألماظ -كانت قد أهدتها لها فرنسا انا قبل ذلك – كنوع من الاحتجاج الشريف فأخذها نابليون ولم يهتم ومنحها إلى عشيقته، ولكن بعد مغادرة نابليون لمصر عام 1799م أعلن أنه سيظل (صديقاً إلى الأبد) لهذه السيدة، لدرجة إنه بعث وهو في قمة مجده (إمبراطورا على فرنسا) عام 1805م، أمرًا كتابيًا إلى قنصل فرنسا العام في مصر، بأن يبذل كل جهده لحمايتها ورعاية أمرها.

ويتولى كليبر قيادة الحملة خلفًا لنابليون ويولي مراد بك حكم جنوب الصعيد بناء على اتفاق بينهم تجلت معه أسمي معاني الخيانة، حيث كان مراد بك يدعم القوات الفرنسية بالطعام والسلاح ضد المصريين في ثورة القاهرة الثانية، في حين كانت نفيسة تساند الثوار وترعى من يفقد عائلته منهم، وظلت هكذا حتى توفي زوجها مراد بك بالطاعون في أبريل عام 1801م ودفن بجنوب مصر .
وتخرج الحملة الفرنسية من مصر وتنجح نفيسة في الحصول على حماية البريطانيين الذين بسطوا نفوذهم على البلاد لفترة قصيرة قبل أن يستعيد العثمانيون سيطرتهم على مصر من جديد.


وتواصل نفيسة حماية المماليك وأسرهم من النظام الجديد الذى كان شديد العداء لهم بعد انحياز الكثير منهم لجانب الفرنسيين، فكانت ترعى أسرهم وأولادهم؛ في الوقت الذي كانت فيه القوات العثمانية تعتقلهم أو تصدر بحقهم أحكامًا بالإعدام، فاشتهرت بين المصريين باسم “أم المماليك”
وتبتلى مصر بخسرو باشا ثم خورشيد باشا وتدخل نفيسة فى محنة كبيرة فى عهده بعدما وجّه لها العديد من التهم، أهمها التدبير لثورة في مصر، ومساعدة العامة وتأليب المماليك على السلطة العثمانية وأن جواريها يوزعون منشورات ضد الباب العالي فى الآستانة، ويحتدم الصدام بينها وبين خورشيد باشا ويأمر بسجنها الأمر الذي أثار غضب كل الذين كانت تحسن إليهم بالفضل أو بالمال، ولكنها تستمر فى رعايتهم -حتى في أيام محنتها – بمعروفها وبرها، ولم تتوقف عطاياها لحظة وهي في الحبس، ويورد الجبرتي أنها اعتقلت فى (بيت السحيمي) بالقاهرة وأنها حاولت الهرب لكنها فشلت، وظل الحال يتدهور بها حتى نسي الناس اسمها ورسمها .
ويتولى محمد على حكم مصر عام 1805م وتتعرض الست نفيسة البيضا للمحنة الأخيرة بسبب مذبحة القلعة، لأنه في خضم صراع محمد علي مع المماليك أمر بمصادرة كل أموالها وممتلكاتها وأمر بتحديد إقامتها في بيت أحد المشايخ تحت حراسة العسكر ولم يعد يزورها أحد إلا بإذن من الوالي شخصيا، وتشفّع العلماء والأعيان في أمرها، وتوسطوا في إطلاق سراحها أكثر من مرة، ووافق محمد علي باشا على خروجها على أن تحدد إقامتها في بيتها القديم بدرب عبد الحق الذي أقامه لها زوجها الأول علي بك الكبير، بعد أن صادر كل ما دون ذلك لها من مال وعقار ورفض إعادته لها حتى لا يتقوى المماليك بها مرة أخرى لتعيش بقية أيامها في فقر شديد إلى أن تموت الست نفيسة البيضا أو نفيسة هانم قادين فقيرة وعجوز يوم الخميس 19 أبريل 1816عن عمر يناهز 80 عامًا بعد كل هذا الثراء وهذه الشهرة وهذا النفوذ وهذه الأدوار السياسية والاجتماعية التي لعبتها كحاكمة ظل .

ويظل سبيل وكُتّاب ووكالة نفيسة البيضا بشارع المعز بالقاهرة الفاطمية أحد أكبر وأهم الشواهد الباقية من سيرة الفاتنة البيضاء .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.