4 نوفمبر 2023
في البداية؛ عليّ الاعتراف بأهمية “صحافة المواطن” التي أرفضها جملةً وتفصيلاً بوصفي صحافي كلاسيكي أمضى عمره بين أروقة الصحف والتحبير والمطابع، ثم انتقل “عنوةً” إلى الصحف الرقمية بما فيها من مقدمات لصحافة المواطن التي أثبتت جدارتها اليوم في تغطية حرب غزة، حيث لا يصل مراسل الصحيفة ولا يتابع إلا صاحب الشأن من خلال جواله.
لقد تعمّق الشعور العالمي بحجم “بربرية” الكيان الإسرائيلي، وباتت الأمور أكثر وضوحاً على الأقل، لم تعد موشحات البكاء ومظلوميات هذه الكيان الهمجي تجدي نفعاً في العالم بأسره، هنالك موجة رفض وكراهية لأفعال الإسرائيليين بشكل غير مسبوق اليوم في أوروبا وأمريكا وبقية الخرائط.
في مارس من هذا العام، أجرت مؤسسة غالوب في أميركا استطلاعاً وجدت فيه أن 49% من مؤيدي الحزب الديمقراطي كانوا أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، وهو أعلى مستوى في القرن الحادي والعشرين، بينما انحاز 38% إلى الإسرائيليين.
كما أصبح جيل الألفية الذي شمله الاستطلاع نفسه أكثر دعماً للفلسطينيين من الإسرائيليين للمرة الأولى هذا القرن. وبينما ما يزال غالبية الأمريكيين الذين شملهم استطلاع غالوب يتعاطفون أكثر مع الإسرائيليين، ارتفعت نسبة الدعم للفلسطينيين للعام الخامس على التوالي، لتصل إلى 31% في عام 2023. أما اليوم..فلا شك أن هذه الأرقام تضاعفت.
7 أكتوبر، يوم هجوم حماس على قطاع غزة الذي أسماه الكثير من صحافيي الغرب بـ: “11 سبتمبرالإسرائيلي”، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بفرض “حصار كامل” على غزة وأعلن: “لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود.. نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقًا لذلك”! وحذر حوالي تسعمئة اسم لامع في الصحافة واللسانيات والسياسة أن مثل هذا الخطاب اللاإنساني (“الحيوانات البشرية”) كان عبر التاريخ بمثابة مقدمة وتمهيد للإبادة الجماعية. وبالفعل، بدأ الإسرائيليون بالقصف الجوي المجنون الذي قضى على الآلاف من الفلسطينيين في أيام. ولكن ماذا جرى؟ أوقد مجلس النواب الأمريكي الشموع على أرواح الإسرائيليين! كيف لا وقد عمل الصهاينة على تكريس فكرة العربي الإرهابي في السينما والمسرح والتلفزيون والقصة القصيرة والتحقيقات الحقية والمقالات والافتتاحيات والبرامج كلها وأخيراً على وسائل التواصل. ولكن ما حدث أن عمل كل تلك السنوات ذهب أدراج الرياح مع أفعال الصهاينة الإجرامية وعلو الصوت العربي في كل مكان وعلى أعلى مستوى.
نعم، بدأ العالم يتساءل؛ أهولاء من نمنحهم شيكات على بياض؟ أهولاء الذين يدعون أنهم مسحوقون مظلومون؟ هل علي أن لا أتعاطف مع طفل في العالم يرتجف كورقة الشجر من الخوف؟ وآخر فجروا رأسه بلا رحمة؟
كانت إسرائيل مرتاحة من أن الحزبين في أميركا (الجمهوري والديمقراطي) يتجنبان إزعاج جنابها، والتزمت بذلك رئاسات بيل كلينتون، وجورج دبليو بوش، وباراك أوباما بشكل فادح، لكن اليوم مع بايدن المرتج المرتجف، بات صوت الشارع أقوى بكثير وبدأت المراجعات حتى داخل البيت الأبيض.
عندما بدأ الجيش الإسرائيلي في الرد على هجوم حماس، سمعنا تعليقات من الجمهوريين، ما هذا؟ إنها شوفينية مظلمة.. إنها إبادة صريحة.. بدأت تظهر انقسامات جديدة مفاجئة داخل الائتلاف الديمقراطي أيضاً. بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي السابق لباراك أوباما، وتوماس فريدمان، المعتدل القوي في صفحة الرأي في التايمز، وجدا نفسيهما على يسار السيناتور جون فيترمان، اليساري الشعبوي والصهيوني اللاذع. واستقال جوش بول، وهو مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية لأكثر من عقد من الزمان، احتجاجاً على “مساعدة أميركا الفتاكة المستمرة لإسرائيل”. إن هذه البربرية أربكت كل المؤسسات الأمريكية والعالمية، الجامعات والعائلات والمؤسسات بل وحتى المعابد اليهودية دخلت في صراع داخلي.
مارك لامونت هيل، الصحافي الناشط في حقوق الإنسان، والمعلق السياسي لشبكة Fox News و CNN التي طردته من منصبه 2018، بعد تصريحاته أمام الأمم المتحدة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني التي زُعم أنها معادية للسامية. إذ استخدم مصطلح: فلسطين حرة “من النهر إلى البحر”، حيث زعم المتشددون الصهاينة أن هذه عبارة مأخوذة من معجم الجماعات الإرهابية “حماس” مثلاً!
حادثة هيل هذه اليوم تتكرر في كل وسائل الإعلام التي تستحوذ عليها الحركة الصهيونية، ولكن لم يعد من الممكن أيقاف هذا المدّ في كرههم الذي بدأ يأكل الأخضر واليابس غير آبه بصوت مدافعهم وجنازير دباباتهم، ولا يهتم بأفلامهم التراجيدية التي باتت مضحكة جداً..