8 سبتمبر 2023
سامح محجوب – نص خبر
نعم كان هناك إرهاصات ومحاولات جادة للبحث عن مرجعيات مؤسِسة لهوية بات الإعلان عنها فرض عين لأمة طال اختطافها على مدار قرون خلت، ولا شك أن هذه الإرهاصات النظرية كانت مقدمة مهمة لفعل حركيٍ ضخم تمثَّل فى ثورة 19 الحدث المفصلي الأهم فى تاريخ مصر الحديث ، الثورة التي تعد التاريخ الحقيقي لتأسيس الدولة المصرية الخالصة بمرجعياتها المختلفة دينيا وتاريخيا واجتماعيًا.
بعد هذه الثورة تستطيع أن تصف مطمئنًا كل ما ينتجه المصريون بالمصري، تستطيع أن تصف الموسيقى بالمصرية لأن ثمة موسيقي بحجم سيد دوريش يفرض سطوته وللمرة الأولى على مقامات موسيقية ظلت لفترة طويلة لا ترى ولا تشم رائحة الصبح الطالع من الحارات والغيطان والأسواق ، لأن ثمة مطربة بحجم أم كلثوم تغني رقّ الحبيب وقارئ بحجم محمد رفعت يؤسس لحالة سمعية فريدة -ستصبح مدرسة فيما بعد – للقرآن الكريم ، فى الوقت نفسه تتشابك الأيدي – فى الصحافة والأدب والفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والفكر الديني – لتمصير كل فكرة ونظرية وإبداع، أنت فى حضرة مصر طه حسين وأحمد شوقي والعقاد والمازني وإسماعيل مظهر وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وعبدالرزَّاق السنهوري وحسين مؤنس وحسين فوزي ومحمد مندور وعبدالهادي الجزار ومحمود سعيد ومحمود مختار وعلي ومصطفى عبدالرازق ونجيب محفوظ وأحمد لطفي السيد ومحمد عبدالوهاب وعبدالرحمان بدوي وإسماعيل ياسين ويوسف وهبي وأحمد بدرخان ومحمد التابعي وسليم حسن وبديع خيري ، أنت فى حضرة مصر الخالصة دَمًا وروحًا وعقلًا مصر تأليفًا وتمثيلًا وإخراجا..
أنت إذن فى حضرة مصر التي تآمرت مع القدر ليمنحها فى العشر سنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر كل هؤلاء العباقرة الذين غيّروا وجه الحياة واستعادوا لها خاتمها وشعارها وفى المقدمة من هؤلاء منحها القدر الفتى الفذ السيد درويش البحر ابن السابع عشر من مارس 1892 وابن حي “كوم الدكة” وابن الأسكندرية المدينة الكوزموبولتنية التي كانت تقتسم حينها مع القاهرة (المركز ) كل مقومات المدنية والحضارة اقتصاديًا واجتماعيًا وفنيًا وربما سياسيًا ، ولد سيد درويش فى أسرة بسيطة، كان أبوه درويش البحر بحارًا فقيرًا يمتلك ورشة صغيرة في “كوم الدكة ” يصنع بها القباقيب والكراسي الخشبية ويحصل على رزقه هو وأسرته بصعوبة شديدة، وكان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب وكانت أمه واسمها (ملوك) تنتمي أيضًا لأسرة فقيرة وكانت أمية هي الأخرى وكانت قد سبقته الى الدنيا شقيقتان تكبرانه قليلًا.

وكعادة آباء وعائلات هذه الطبقة كان أبوه يريد أن يراه شيخًا معمّمًا يحفظ القرآن ويجوّده فكان أن أدخله كُتّاب الشيخ حسن حلاوة بكوم الدكة ليتعلّم مبادئ القراءة والكتابة ويحفظ قسطًا من القرآن الكريم، لكن الفتى الذي الفذ كان شغوفاً في طفولته بالاستماع الى الشيوخ الذين يحيون الموالد الدينية ويحفظ عنهم ويقلّدهم أمام أطفال الحي.
وصل درويش سن العاشرة وكان قد أجاد القراءة والكتابة وحفظ قسطًا كبيرًا من القرآن ووضعه القدر فى أول اختبار قاس حيث رحل والده وأصرت والدته (ملوك) أن يواصل تعليمه كما أراد أبوه ونقلته الى مدرسة أوليّة بها معلم يهتم بتحفيظ الأطفال الأناشيد الدينية والقومية واسترعى الطفل سيد درويش انتباهه فخصه بعنايته وجعله يقود الأطفال في ترتيل الأناشيد، ونمت معه موهبته وخرج من حدود الحي وأصبح يرتاد الأحياء الشعبية الأخرى ويستمع الى مشاهير المشايخ والمطربين الذين يحيون الأفراح والموالد الدينية واشترت له أمه ملابس رجال الدين وهو غلام في الثالثة عشر من عمره! وتقدم للالتحاق بالمعهد الديني التابع لأحد مساجد الإسكندرية وهو مسجد سيدي المرسى أبوالعباس لكي يتم حفظ القرآن وتجويده، وكان درويش بطبيعته محبًّا للقراءة ويقرأ كل ما يقع في يده من كتب وصحف عربية.

وشيئًا فشيئًا تسلل الفتى الصغير للمواليد والأفراح كموشح ومنشد ومطرب أحيانًا ، وعرف الفتى للمرة الأولى كيف يتكسب من هذه المهنة ويساعد والدته فى الإنفاق على أسرته.

وجاء عام 1907 بالأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة التي أوقفت الحياة عن حدودها الدنيا وبالتالي كسد سوق الفن والإنشاد وتعطل أصحابه فاضطر سيد درويش المسؤول عن أسرته أن يخلع عباءة المنشد وينخرط فى العمل مع عمّال البناء بدون أن تغادره روح الفنان الذي ظل يردد أغانيه وسط العمال ليخفف عنهم وطأة العمل وهم يلتفون حوله ويطالبونه بالمزيد، وكان أن تسلل صوته الشجي لمقهى قريب من عمله كان يجلس به مصادفة الأخوان سليم وأمين عطالله أصحاب فرقة التمثيل المعروفة اللذان أعجبا بسيد دوريش وطلبا منه أن يلتحق بفرقتهم ويسافر معهم إلى الشام، فوجد درويش ضالته ووافق على الفور وذهب معهما ليعود بعد ثمانية أشهر إلى الأسكندرية بروح المحترف الذي يريد أن يخط لنفسه طريقًا وطريقة، فكان أن بدأ يغني من ألحانه الشخصية وينسب الألحان لآخرين نظرًا لصغر سنه وخوفًا من عدم تصديق الآخرين له، ويعود الأخوان عطالله للأسكندرية ويستئنفان نشاطهما التمثيلي ويطالبان دوريش للعمل معهما ويعودان مرة أخرى للشام فى رحلة فنية بصحبة سيد درويش ويمكثا هذه المرة فترة أطول ينتهزها الفتى الفذ فى استكمال تعليمه الموسيقي على يد موسيقيي الشام من مثل الشيخ إبراهيم الذي استكمل على يديه دراسة علوم الموسيقى العربية وحفظ عن ظهر قلب حفظاً كاملاً كل التراث العربي، ثم عاد الى الإسكندرية سنة 1912 واستمر يعمل في الأفراح والمقاهي الشعبية وذاعت شهرته وبدأ يجاهر بأنه ملحن ويقدم للناس ألحانه بنفسه وكان يرددونها كأنهم من ألّفوها ولحّنوها.
