لماذا أصبح العالم مولعا بأعمال السيرة الذاتية؟!

 

11 أغسطس 2022

“قد لا توجد أي طريقة أخرى لفهم الإنسان إلا من خلال الفن”، يمكن لتلك الحكمة التي قالتها الكاتبة الجنوب أفريقية الراحلة نادين غورديمير، أن تعَبر بدقة عما يتم تقديمه للجمهور من خلال أعمال السّير في السينما والتلفزيون.

فالإنسان أو البطل هو محور العمل.. ميلاده ونشأته وتجاربه ومشاعره تجاه الآخرين وما حققه من نجاحات أو إخفاقات حفرت اسمه في سطور التاريخ، كلها عناصر تتضافر دراميا بما لا يخل بالجوهر لتشكل قصة واقعية تثري معرفة الجمهور بالمزيد عن حياة إحدى الشخصيات البارزة.

شخصيات وقضايا سّير الثلاثينيات

بحسب موقع “filmsite” فإن شعبية أعمال السّير ليست وليدة الإنتاجات الحديثة، وإنما هي شغف بلغ ذروته في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تم طرح العديد من الأعمال الهامة من بينها “لويس باستور – Louis Pasteur” الذي روى قصة العالم الفرنسي الشهير الذي حاول إيجاد علاج للجمرة الخبيثة ورهاب الماء، وفيلم “حياة إميل زولا- The life of emile zola” الكاتب الفرنسي الذي اشتهر بمحاربته ظلم قضية دريفوس، ذلك الصراع الذي وقع في نهاية القرن التاسع عشر بشأن النقيب في الجيش الفرنسي ألفريد دريفوس بعد اتهامه بتسريب ملفات سرية للجيش الألماني، وغيرها الكثير من الأفلام التي ركزت على السياسيين والقادة والرؤساء والملوك، نظرا لطبيعة القضايا والاهتمامات خلال هذه الفترة.

سر اهتمام السينما العالمية بالسّير الذاتية
البساطة والاتقان سر اقتناص الأوسكار

وفي السنوات الأخيرة  أيضا، استمر سيل إنتاجات السّير، التي حاز أغلبها على جوائز وتكريمات من كبرى المحافل الدولية، ولعل أبرزها فيلم “الملك ريتشارد”، الذي يتناول قصة دعم ريتشارد ويليامز، لابنتيه أسطورتي التنس فينوس وسيرينا، حيث فاز بـ 48 جائزة و134 ترشيحا، وكان للممثل الأمريكي ويل سميث، نصيب الأسد منهم، حيث حصد 18 جائزة من بينها الأوسكار والجولدن جلوب، والبافتا كأفضل ممثل عن دوره في العمل.

الصدق، والإتقان، والبساطة، وسلاسة الأداء، كانوا جميعهم سر اقتناص “سميث” لهذه الجوائز، والسبب كشفه في تصريحات سابقة له، أنه بعد مشاهدته لـ 100 ساعة من مقاطع الفيديو التي جمعت ريتشارد بابنتيه، شعر بأن الأخير يشبه والده في بعض النواحي، أهمها تمسكه بالحلم الذي لا يؤمن به أحد غيره.

وبخلاف “كينج ريتشارد”، فقد سبق وأن قدم ويل سميث على الشاشة سيرتين أخريين هما قصة رجل الأعمال كريستوفر جاردنر، من خلال فيلم “السعي للسعادة – The Pursuit of Happyness” عام 2006، وحياة الملاكم محمد علي كلاي، من خلال فيلم “علي – Ali” عام 2001، وكلاهما حصدا العديد من الجوائز والترشيحات، حيث نال الأول 12 جائزة و26 ترشيحا أحدهم ترشيح ويل سميث للأوسكار، أما الثاني فحصل على 10 جوائز و27 ترشيحا.

ومن أشهر الأعمال التي حققت نجاحات كبيرة مؤخرا، فيلم “بيت جوتشي – House of Gucci” الذي أخرجه ريدلي سكوت عام 2021، والذي شارك في بطولته ليدي غاغا، وآدم درايفر، وجاريد ليتو، وجيرمي أيرونز، وغيرهم، حيث حصل على 14 جائزة و75 ترشيحا، من بينهم جائزة الأوسكار لأفضل مكياج وتصفيف شعر.

كما حاز فيلم “سبنسر – Spencer” الذي طرح العام الماضي إعجاب الكثيرين، فقد قدمت النجمة كريستين ستيوارت، من خلاله سيرة الأميرة الراحلة ديانا سبنسر، واستطاعت بفضل أدائها المميز أن ترشح لعدة جوائز، أما مجمل جوائز الفيلم فبلغ 44 جائزة و125 ترشيحا.

خطأ شائع

وفي تصريحات خاصة لـ “هي” أكد الناقد الفني أندرو محسن، أن الإقبال الكثيف على صناعة أعمال السّير ليس موضة أو ترند –على حد وصفه- حيث قال: “لا أستطيع أن أصف الاهتمام بهذه النوعية من الأعمال بأنه سيطرة على الصناعة، لأنها متواجدة بالفعل طوال الوقت وعلى مر السنين، ودائما ما نجد تنوعا كبيرا في الشخصيات التي يتم تناول سيرتها، إذ تتحدث هذه الإنتاجات عن سياسيين أو رياضيين أو بيوت أزياء مثل جوتشي”، لافتا إلى أنه لا يجوز وصف هذه النوعية بأعمال “السير الذاتية” مؤكدا أنه خطأ شائع ولا يصح قولها إلا حينما يكتب أو يقدم الشخص ذاته سيرته هو في كتاب أو فيلم، أما تلك الصناعة فهي “سّير” في جميع الأحوال.

ليدي جاجا
الميل لإنتاج شخصيات بعينها

لكن رغم التنوع الكبير الذي تشهده أعمال السّير، إلا أنه لوحظ تكرار التناول الدرامي لشخصيات بعينها ومن أبرزها على سبيل المثال ديانا أميرة ويلز، فبخلاف فيلم “سبنسر”، فقد جسدت نعومي واتس دورها عام 2013 في فيلم “ديانا”، ومن قبله فيلم “ديانا: تحية لأميرة الشعب – Diana: A Tribute to the People’s Princess” عام 1998، حيث قامت بدورها النجمة ايمي سيكومب، فيما أدت ناتالي بروكر نفس الدور في 2007، من خلال فيلم “مقتل الأميرة ديانا – The Murder of Princess Diana”، وغيرها.

وبالعودة لموقع “filmsite”، فقد أشار إلى أن نابليون بونابرت، هو الشخصية التاريخية الأكثر تمثيلا على الشاشة من بين شخصيات أخرى تم تجسيدها بكثافة مثل الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن، ويسوع المسيح، وفلاديمير إيليش لينين، وهتلر، وكليوباترا، والملكة فيكتوريا، وهنري الثامن، وغيرهم، إلا أنه لفت في نفس الوقت إلى أن المصادر التي أقرت بهذه الإحصائية لم يتم تأكيدها بعد.

أفلام السير الذاتية

بناء على الإحصائية السابقة، يمكن القول أن صناع السينما يميلون عادة لإنتاج سّير السياسيين الذين اشتهروا بمواقفهم الحاسمة وتأثيرهم القوي في مصائر الشعوب، فكلما زادت أهمية الشخص كلما زاد فضول الجمهور للتعرف على الجانب الخفي الغامض من حياته.

وفسر أندرو محسن، إقبال الكثيرين على متابعة هذه النوعية من الأعمال قائلا: “دائما ما يكون لدى المشاهد رغبة كبيرة في متابعة الشخصيات المفضلة لديه سواء ممثلين أو غيرهم، فالجمهور يهوى الاطلاع على الكواليس والتلصص على حياة هذه الشخصيات الشهيرة، لأن غالبا ما يظهر لهم الجانب الفني أو السياسي فقط أما التفاصيل الحياتية فهي غامضة ومجهولة”.

ولفت “محسن” إلى أن تكرار تناول نفس الشخصية عدة مرات هو بمثابة محاولة لكشف غموض قصة منسية، أو ربما تزامن الأمر مع طرح كتابا جديدا تضمنت سطوره معلومات ولدت الرغبة لتحويلها إلى فيلم، أو أن ذكرى الميلاد أو الوفاة هي السر وراء ذلك، ولا يمكن أن نغفل بالطبع الجانب التسجيلي لأعمال السّير.

أفلام السير الذاتية
انتقادات للشقراء

ومن بين الشخصيات التي ينتظر الجمهور مشاهدتها مرة أخرى قريبا على الشاشة هى النجمة مارلين مونرو، إذ أنه من المقرر أن تعرض شبكة “نتفليكس” في سبتمبر المقبل فيلم “شقراء ـ Blonde”، المأخوذ عن رواية جويس كارول أوتس، التي طرحت بنفس الاسم عام 2000.

يشارك في بطولة الفيلم نخبة من نجوم هوليوود أبرزهم الفنانة الكوبية آنا دي أرماس، التي أكدت لصحيفة “The Times of London” أنها استغرقت حوالي 9 أشهر للتدريب على لهجة “مونرو”، إلا أنه رغم ذلك واجهت انتقادات عديدة بعد طرح الفيديو الترويجي للفيلم، نظرا لعدم تطابق لهجتها مع لهجة النجمة الراحلة.

فيما تشير الانتقادات التي وجهت لآنا دي أرماس، ولغيرها من الفنانين الذين سبقوها في تجسيد سّير المشاهير، إلى أنه لا بد من وجود تطابق كبير بين الشخصية الأصلية والفنان الذي يجسدها على الشاشة، وأن الأمر لا يتعلق بمضون القصة أو الرواية فقط، فالهيئة والملامح والأزياء والتفاصيل الدقيقة للشخصية، من أهم العوامل التي تساهم في دعم الفيلم جماهيريا.

تراجع أعمال السّير عربيا

بخلاف السابق ذكره، فإن اتساق أحداث العمل مع القصة الحقيقية يعد أحد أهم العناصر المطلوبة لإنتاج السيرة، وهذا يقودنا إلى سبب تراجع هذه النوعية من الإنتاجات في السينما العربية، إذا دائما ما يتم اتهامها بتحريف الأحداث خاصة التاريخية.

من بين تلك الأعمال التي أثارت جدلا واسعا عام 2014، مسلسل “سرايا عابدين” الذي وصف بأنه يحتوي أخطاء تاريخية فادحة مسيئة للأسرة العلوية، هذا ما دفع مازن حايك، المتحدث باسم مجموعة mbc، للدفاع عن العمل حيث قال في تصريحات له مع موقع “CNN” إن المسلسل ما هو إلا دراما اجتماعية بحتة تدور في أجواء افتراضية خيالية، ولا تهدف إلى توثيق تاريخ الحقبة الخديوية، لكنها اتخذت منها حاضنة مكانية وزمانية للأحداث.

ومؤخرا، وصفت جانجاه عبد المنعم، شقيقة الفنانة الراحلة سعاد حسني، في تصريحات صحفية، مسلسل “السندريلا” الذي قامت ببطولته الفنانة منى زكي، والذي أخرجه سمير سيف، بأنه كان سيئا وبعيد تماما عن القصة الحقيقية لشقيقتها، مؤكدة أنه تم إنتاجه خلسة دون الرجوع إليهم.

نفس المصير لحق أيضًا بمسلسل “كاريوكا”، بعد أن انتقدت الفنانة الراحلة رجاء الجداوي، الوحشية التي ظهر بها خال تحية، مؤكدة على أنه كان متشددا في مسألة الرقص فقط، إلا أنه كان رجلا طيبا، بالإضافة إلى ذلك، شهد أيضًا مسلسل “أسمهان” عقبات كثيرة نظرا لرفض “آل الأطرش” للعمل الذي وصفوه بأنه زيف عدة شخوص أبرزها فؤاد الأطرش، شقيق أسمهان ووالدتها.

من جانبه، أوضح الناقد الفني أندرو محسن، أن أعمال السّير كانت قد انتشرت عربيا بعد نجاح مسلسل “أم كلثوم” الذي قامت ببطولته الفنانة صابرين، والذي حقق نجاحا كبيرا حينها، مشيرا إلى أن أبرز هذه الإنتاجات كانت أغلبها لفنانين من بينهم “العندليب”، “الشحرورة”، “السندريلا”، وغيرهم.

وأرجع سبب التوقف عن صناعة هذه النوعية من الأعمال إلى ضعف المستوى وتواضع الإنتاج، معلقا: “حينما نتحدث دائما ما نذكر مسلسلي (أم كلثوم) و(أسمهان)، إلا أن الأعمال الأخرى لم تحقق أي نجاحا على الإطلاق، مما يجعل الاتجاه إلى مثل هذه المسلسلات بمثابة مجازفة إنتاجية كبيرة، هذا بخلاف الحساسية الشديدة في الدول العربية ومصر بشأن هذه السّير، إذ دائما ما يرغب الورثة أو المقربين من الشخصية بإظهارها في صورة ملائكية، وهذا خطأ كبير لأنه لا يوجد شخصيات بها شر مطلق أو خير مطلق، وحينما يتم تصوير إحدى الشخصيات بأنها ملائكية فإنها تفقد جاذبيتها.. لا بد من تصوير الصراعات وقصص الهبوط والصعود وتطور الشخصية”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.