صلاح چاهين .. الكِلْمة باب ، الكِلْمة لمبة كهربية فى الضباب

21 سبتمبر 2023

*سامح محجوب يكتب :

 

الشعر فن يتطور ذاتيًا ولديه حساسيته النقدية الخاصة ومن الصعوبة تحديد موقف ثابت تجاه نزوع مرتكزاته المستمر لمفارقة نفسها جماليًا، كما أنه من الصعوبة أن يتجاهل الشعر بكل رهافة وحيوية مادته ما يحدث حوله من عصف مستمر فى الوجدان الجمعي للجماعة الإنسانية،
وليس أجدر من اللغة فى تغيير مفاهيم الشعر وتفعيل سياقاته بل وليس غيرها من بين كل مرتكزاته يستطيع أن يفلت به من الحدث والموضوع والزمن ذلك الثالوث الخطر على حداثته التي تبدأ وتنتهي باللغة ذلك المرتكز الذي استوعبه واستثمره صلاح جاهين جيدًا فى طرح مخيلته ومجازه فى عجينة أسلوبية أقرب ما تكون لنحت لغوي فذّ لروحه وجسده وحضوره ومواقفه تلك الملامح التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تفككها بعيدًا عن نصه الثري فى طرحه الجمالي والأسلوبي بحيث أنك لا يمكن أن تضبطه مكررًا أو مجترًّا لذاته وكأن كلَّ نص ولد في مكان قصي عن الآخر بل وفى زمن بعيدٍ عن الآخر والسر فى ذلك يكمن فى الروح التجريبية التي كان يتمتع بها جاهين المنغرس فى عظم ولحم العادي واليومي والمعاش كمثقف عضوي يكتب قصيدته فى الصباح ويخرج مساء فى مظاهرة للدفاع عنها .

وهاكم أحد نصوصه الذي من فرط بساطته وتقاطعه مع اللغة الإجرائية المتاحة فى الحوار اليومي يخيّل للجميع أنه يمكن أن يقوله وأنه يمثله ويعبر عنه وتلك إحدى معجزات جاهين التي لا تنفد .

( الساعة اتنين صباحًا )

النور مـَلـوْ الشـوارع
ومليون راديـو والـع
الساعة اتنين صباحًا
لكين إيـه المـوانـع !
الخلق رايحة جايه
والدنيا لسه حية
مليانة بالهـأو أو
وزعـيـق القهـوجـيـة .
واحد يقول لواحد :
خليك يا عم قاعد
التاني يقول له : شكرًا
ده أنا م المغرب مواعد
فيه سهرة لسه عندي
في بيت فلان افندي
ح ناكل حاجة حلوة
ونشرب تـمـر هندي . .
واللي تروح دالقة جـردل
فوق حضرة المبجل
طبعًا صاحـبنا يـزعـل
وينفجر شتـايم . . .
والحي كله يوصل
ما بين مصلح ولايم
اللي يقول :
يااا جمـاعـة . . .
واللي يقول : يا بهايم . .
ومطرب الإذاعة
يصرخ !
وف وجـده هايم . .
ولو طرطقت ودنك
في وسـط دي العظايم
تسمع مسحراتي
بطبلة صوتها واطي
بيـقـول :
اصحى يا نـايـم

لم يأت جاهين بجديد هكذا يبدو النص حتى نهايته بجملة ( اصحى يا نايم ) التي تجبرك على قراءة النص من جديد وإعادة قراءته مرات عديدة لتكتشف الماهيات الحاكمة لهذا الكولاج العبقري للتبادلية العميقة بين عمر الإنسان وتداولية الزمن المرعبة التي تشعر حيالها أنك تعبره حالمًا أو نائمًا على أقصى تقدير .

رسم جاهين ومثّل وكتب السيناريو والحوار والمسرح ولو سمحت له الحياة ومدت له حبالها الواهية لرقص تانجو وعزف على كل الآلات الموسيقية وكتب الرواية وأخرج للسينما وربما رشّح نفسه للرئاسة ! لكن الشعر ظل هاجسه الأكبر وحارسه الأمين الذي يلوّن له كل غواية جديدة بحيوية مخيلته وطزاجة مجازه والتفافه العبقري على الحقيقة التي لا تسمح الحياة بقولها دفعة واحدة أو ربما لا تسمح بقولها أبدًا !!وهذا ما عرفه جاهين مبكرًا وألحَّ عليه فى نصوصه التي لا تخلو من تضمين قوة وروح الكلمة تلميحًا وتصريحًا بل وإعطائها أبعادًا سوريالية تخرجها من معقوليتها لمحسوسات مدركة ومجسّدة كأنه يريد أن يكسبها شرعية الجيوش التي تمتلك أعتى آلات الحروب والدمار
وليس أدل على ذلك من قوله :

اتكلموا..
اتكلموا..
اتكلموا
محلا الكلام
ماألزمه
ماأعظمه
فى البدء كانت كلمة الرب الإله
خلقت حياه والخلق منها اتعلموا
فاتكلموا
الكلمة إيد
الكلمة رجل
الكلمة باب
الكلمة لمبة كهربية في الضباب
الكلمة كوبرى صلب
فوق بحر العباب
الجن يا أحباب
مايقدر يهدمه
فاتكلموا

وقوله فى إحدى رباعيات الشهيرة :

ياعندليب ماتخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكى على بلوتك
الغنوه مش حتموتك…… إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك

هكذا يكاد يستنفد جاهين كل الدلالات المتاحة تنويعًا على اللغة التي أكسبها وأكسبته مجابهة سطوة الزمن الذي داست خيوله الكثير من الكلام والبشر ممن لم تمكنهم مواهبهم الصغيرة من فك شفراته الناعمة والحادة فى آن واحد
وتلك إحدى آيات الحداثة التي تُمنح ولا تكتسب ولا شك أن جاهين كان أحد من تلقوا وحيها ووظفه بعبقرية نادرة جعلت نصه حاضرًا وحيويًا وخالدًا خلود والحق والخير والجمال .
ليس هذا فحسب فجاهين الحاضر بقوة حداثة وطزاجة نصه الآن استطاع أن يكون نجم زمانه بل ونبيه المرسل لكافة البشر وذلك على أكثر من صعيد فهو رسّام الكاركاتير الأشهر الذي يشتبك بخطوطه المجردة الحادة وكوميدياه السوداء يوميًا مع أعقد القضايا الإجتماعية والسياسة والدينية والفنية فحينما طلب الغزالي من عبدالناصر أن يلزم المرأة المصرية بزي محتشم رسم جاهين وكتب رباعيته الشهيرة :
النهد زي الفهد
نط اندلع
قلبي انهبش
بين الضلوع و انخلع
ياللي نهيت البنت
عن فعلها
قول للطبيعة كمان
تبطل دلع
وهو الشاعر الذي صدّر مبادئ ثورة يوليو لكل طبقات الشعب المصري بل والعربي محوّلًا السياسي والأيدلوچي إلى إلى خبز جماهيري ساخن يلهب جياد الثورة فى طريقها للحرية حتى لو جعل من الثورة وصنّاعها فى بعض الأحيان آلهة وطواطم وجعل من حليم مؤذنًا وصارخًا فى البرية ومن سعاد حسني مطربة شباك ! ولم لا والفن فى بعده الاعمق ضرب من المبالغة البريئة أو لعب جميل كما كان يفسّره صلاح جاهين نفسه لذا مازالت أغانيه لثورة يوليو صالحة لكل حركات التحرر مها اختلف عليه المكان والزمان :

حلوين قوى كده وحياة ربى….
ياحبايبى باقولها من قلبى
ثورتنا صورتناومحلاها………
فى اطار التنظيم الشعبى
ناصر ….
واحنا كلنا حواليه….
ناصر ناصر ناصر
ناصر….وعيون الدنيا عليه….
ناصر ناصر ناصر
ناصر …
والنصر بيسعى اليه …..
ناصر ناصر ناصر
والشعب دليله والهامه….
قربوا من فكره وأحلامه
ياللى عليكم كل كلامه
فى الصورة طالبكم قدامه
قيادات شعبيه قلتم إيه
: قلنا يا زعيمنا قلوبنا آهيه….
أيامنا أهيه ليالينا أهيه
فى يوم الدم
وهبنا الدم……..
ح نبخل بالليالى ليه

وغيرها من الصيحات الكبيرة التي عبرت عنها لغة جاهين التي اعتمدت صيغة الجموع مبنًى ومعنًى بل واعتمدت بشكل غير مسبوق على الموازييك اللهجي الضخم للبيئات المصرية المتنوعة الذي يكاد يختلف من قرية لقرية ومن نجعٍ لنجعٍ على مستوى الصوت واللهجة واللغة الأمر الذي هضمه جاهين جيدًا ومبكرًا بشكل لا يمكن أن تتكهن معه متى وأين ولد جاهين الشاعر الحداثي والمئة مليون مصري .

* شاعر وإعلامي مصري

قد يعجبك ايضا