سوريا.. ونصف حياة في نصف وطن

9 سبتمبر 2023

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بيتي فرح – صحافية وكاتبة من سوريا

من الفواجع العقلية عندما تتعارك مع دماغك , تأخذك الذاكرة في رحلة إلى التلافيف التي تحتفظ بالماضي المضيء من وطنك, يصفعك كف الفقدان الموجع الذي يذكرك بالزمن الجميل قبل الحرب, وبالمحصلة أصبحت أنت من مقتنياتها . بلاد لتكتبها, أصبحت بحاجة إلى أبجدية مهجنّة تتألف من 56 حرفا بدلا من 28 حرف .

في سوريا, جميعنا يقارن بين اليوم والأمس بدهشة قد تصل حد الهلوسة, في ذات يوم, منح الدخل المتوسط للفرد حياة لا بأس بها ممّن يمتلك موهبة القناعة, لتكتفي الموائد بما يسد حاجتها وفي بعض الأحيان تزيد النعمة حتى الشهر التالي, مع إمكانية الحصول على مؤونة الشتاء، ولا خوف من وسائل التدفئة لوفرتها، وحصول العائلة على بعض الكماليات ليس بالأمر المستحيل، فهناك سر التحايل على الوضع المعيشي الذي يعرفه معظم السوريين، يتيح لأرباب البيوت قيادة الأسرة بيسر لا عسر. فالدخل يتناسب نوعا ما مع الأسعار المطروحة في الأسواق بمعايير أخلاقية تعود للتاجر قبل أن تتبع لوزارة الرقابة والتفتيش، ناهيك عن توافر السلع الاستهلاكية بأنواعها المختلفة و توفر الماء والكهرباء بشكل شبه دائم.

سوريا التي احتكرت الأمان لسنوات ونالت المرتبة الأولى أمام بلدان العالم لأعوام متتالية، بعيدا عن السياسة، لأننا في الأجندات الغربية نصنّع القمع ونصدّره، حتى وإن خرج من هذي الأرض آلهة وأنبياء .

“نشطح” بالذاكرة إلى تسعينيات القرن الماضي، وكيف كانت سوريا وجهة السياحة العالمية، ومهرجاناتها السنوية محط أنظار العدسات، حتى أنني وعن تجربة شخصية شاركت في تقديم عرض مسرحي على مسرح تدمر وأنا أرتدي “الزي التدمري” أتسمر بفخر على العربة الخشبية المكسورة، والتي كان يجرها حصان شبه معطوب هو الآخر. وفي تلك الليلة جلسنا مع سياح من جنسيات مختلفة يضعون على رؤوسهم العقال و الغترة، يتحدثون بدهشة عن بلادنا, وعن جمال ماضيها وحاضرها، تقييم كان كفيلا بأن أصاب بغرور الطاووس أمامهم. كما أذكر الأصدقاء السبعة من الجنسية النرويجية الذين قدموا من البلاد الاسكندنافية إلى سوريا لحضور مناسبة خاصة، ليحزموا حقائبهم في اليوم الثاني, باتجاه دير “مار موسى الحبشي” ومواقع أثرية أخرى من دون دليل سياحي محلي، دلالة على تربع سوريا على خريطة السياحية العالمية، ناهيك عن توفر السلع الاستهلاكية بأنواعها المختلفة, وتصدير الفائض,تزامنا مع دخول الوطن أبواب التطور التكنولوجي والثقافي والاستثماري وغيرها.

الحكايات الجميلة عن هذه البلاد تطول ولا تنتهي، وقدر الجميلات سيء. حتى أن البعض رفض الهجرة منها رغم إتاحتها لهم، لتتحول لاحقا تلك الجرعة الوطنية إلى جرعة كيميائية تداوي داء الانتماء .

وبعد اجتياح الحرب لسوريا في 2011 وحتى اليوم، تتالت الأحداث التي حفظناها عن ظهر قلب، يكررها صغيرنا قبل الكبير. نضع ما تبقى من ماضينا السمح في براد الذاكرة، بعد أن تحولت مدننا إلى مدن أشباح. وأشلاء. بقي من البعض اسمها و عنوان القيد. وفيما بعد,تبنّت الشوارع المتناقضة المشهد, حيث السيارات الفاخرة تجول فيها بقرب المتسولين وذوي الإعاقات, وحفلات الترف تعلو على أصوات العراك على بقايا الطعام في الحاويات، فلكل واحد منهم مكانه أو بالأحرى حاويته، فالشريحة الأولى قد يصل دخلها الشهري آلاف الدولارات، أما الأخرى يصل إلى 20 دولار تقريبا، يتضارب مع الارتفاع الصاروخي للأسعار التي لا رقيب لها، وما بين الطبقة المخملية والجياع، ماتت الطبقة الوسطى، مما يضع البلاد في مأزق اجتماعي وانساني خطير, ظهر جليا في الأفراح والأحزان، وفي احتفالات الموت والزواج كل على طريقته، ليطول طابور انتظار الحصول على مستلزمات الحياة، ثم يتناقص بسبب إلغاء الدعم الحكومي، ويطول الطابور لاحقا أمام مكاتب الهجرة والجوازات و تقدم لنا القارة العجوز “لقبها”، فنعيش مجددا السفربرلك في العصر الحديث، وتعتبر هجرة العقول من أخطر الهجرات في تاريخ الأوطان، تلتهم في طريقها تدريجيا حس الانتماء، ومؤخرا زلزال السادس من شباط عام 2023 الذي أكمل على من تبقى فوق الأنقاض وتحتها. أسباب اجتمعت تكفي لأن ترى الأوجه شاحبة كالموتى, وتصبح اللامبالاة ترفا للحفاظ على التوازن العقلي والنفسي في الشارع السوري.

إلا إنه هناك محاولات لسرقة الكحل من عين التشاؤم، رغم شحّها، تجدها في محاولات الخروج من صومعة العادات البالية، واستنهاض مجتمع مدني في عقل الجيل الجديد الذي تمرد بعضه على أطلال لن تجديه نفعا، وقد يكون أيضا أسلوب حياة جديد فرضته الظروف الاقتصادية الحالية، كاقتحام النساء مجالات عمل لم تكن مألوفة في السابق، كالعمل في المطاعم أو قيادتها للدراجة النارية في الشارع، وانتعاش جيل المسرح والسينما، وانتشار الفعاليات الأدبية والفنية والخيرية، كان معظمها مبادرات فردية غير ربحية، للتخفيف من وطء الضغوطات، ودليلا أن شرارة الانسانية لم تمت بعد.

خلال الأزمة، احتلت جملة ” بلد الطوابير” المواقع الالكترونية و المحافل الأدبية، واليوم غطى البؤس على قباحة الطابور، واستبدلتنا التقارير المتلفزة والمواقع النشطة من بلد الطوابير والشبابيك المجروحة، إلى “شعب الأنصاف” نعيش “نصف حياة في نصف وطن”. ولأننا أبناء الأسطورة السورية، في يوم ما مجهول التاريخ، قد يعود شبابنا المهاجر كطائر الفينيق، ويستبدل جلجامش عشبة الخلود بالصبر ويهبها للشعب السوري الجبار .
نبقى على قيد الأمل!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.