6 سبتمبر 2023
أمامة أحمد عكوش – نص خبر
مِنْ أعرقِ الأحياءِ الشَّامية، حاملاً التّراث والذِّكريات حَضَر .. حيث مسقطُ رأسِه الياسمينيّ، إلى قلوب أرباب الضَّاد، بقاربه الخاصّ عَبَر .. رفقة أدواتٍ منتقاةٍ منذ بدءِ التَّاريخ، وحتّى يومنا، لا تزال تُعطي تَذَر .. نظمَ فلسفةَ خاصّةً به، من خلال مَلَكَاتٍ ملأى بالرَّسائل والعِبَر .. بدءاً بالموشّحات والغناء، فالمسرح والسّينما والإذاعة، وصولاً إلى الرَّائي، ليخطف بحبٍّ الألباب والسَّمع والبصر؛ هو.. الفنَّان الشَّامل .. أبو الفنّ .. أبو الفنّانين .. فنّان الشّعب .. أبو صيّاح، الذي أكّد في كلّ مراحل حياته، أنّ العنوان والمقدّمة والمتن والخاتمة “سورية” أمّ الجواهر، أصل الدّرر.
حياكة الفنّ
التّاسع من شباط/فبراير 1930 أذن بصرخة حياة رفيق السّبيعي في حي البزورية الدّمشقي، وسط أحداث وتجاذبات سياسية شائكة في سورية آنذاك، عنوانها العريض “مقاومة المستعمر الفرنسي”، أمضى طفولته وهو يجوب الحواري، “كانت لهجة أهلي والجيران وأصحاب المحال والبائعين الجوّالين وأساتذتي وزملائي في المدرسة تطرق أذني، تخترقها، كنت أحسّ أنّ الكلمات تسير في شراييني، كنت أبحث عن شيء لا أعرفه، لست مدركاً لكنهه، حين كبرت قليلاً، أدركت ما هو، أدركته في أوّل حفل مولدٍ نبويٍّ حضرته في حارتنا مع أخي وأنا ابن الثّماني سنوات، نشوة عارمة اعتمرت جوارحي، بينما يردّد منشدو الموشّحات الدّينية كلمات عن الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم وعن خصاله، المتجسّدة في الصّدق والأمانة والمحبّة والتّسامح والتّآخي، وكانت الإيقاعات الموسيقيّة تتداخل مع الكلمات بهارموني لفتني جداً، انسجام لا يوصف، جعلني أترك يد أخي وأقترب من المنشدين، لأردّد معهم، نشوة غريبة أنستني أين أنا، حينها فقط.. أدركت عمّا كنت أبحث، عن ذاتي مع الموسيقى والكلمات، عن ذاتي مع الابتهالات والفنّ”. لم يكمل دراسته، التي أحبَّ مذاكرتها على أنغام محمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم، بسبب ضيق حال عائلته، فحملته تلك الظّروف إلى العمل لدى أحد الخيّاطين قرب الجامع الأموي، إلّا أنّ الفشل كتب له في هذه المهنة، “وكأنّها رسالة من الله، أنْ لا أقدر على متابعة دراستي، وأتوجّه إلى تعلّم الخياطة، وأفشل، كأنّ القدر يقول لي: فشلت في الأولى بسبب ضيق الحال، وفي الثّانية لأنّك لم تحبّها، فعقلك الباطن مولعٌ بشيءٍ آخر، لأكتشف فيما بعد.. أنّي سأحيكُ ما عجزت عنه مع الملابس، سأحيك عالمي في الفنّ” هكذا قال؛ كما أنّ أمّه في تلك الحقبة لطالما طلبت منه الغناء للجارات وهنَّ مجتمعات في دارهم، ليثنين بدورهنّ على جمال صوته، علاوة على غنائه في أعراس أبناء أهل حارته لكارم محمود، وعبد العزيز محمود، وعبد الغني السّيد، وتقديمه مونولوجات لـ “شكوكو، واسماعيل ياسين”.
المشخّصاتي
بدأ رفيق المشاركة في نوادي الكشّافة، وتمكّن من إظهار مواهبه في الغناء والعزف، لتبدأ بعدها ملامحه بالتّشكل أكثر فأكثر، حين وجد الطّريق إلى المسرح، جرّاء مساهمته في تأسيس عدد من الفرق المسرحية النّاشئة بعد الاستقلال عام 1946، وانفتاح سورية على عدد من الفعاليات والفنون، وهي تنتفض مجدّداً في رحلة بحثها عن تمكين ذاتها، تماماً كما رحلة بحثه عن اكتشاف ذاته، وإيجاد موطئ كيانه في عوالمه، التي بدأت بالنضج، عبر شخصيات لبسها ولبسته “القبضاي، الزّكرت، الشّهم”، وها هو يؤدّيها متقمّصاً إيّاها ومتقمّصةً له دون عناء، عبر تقديمها كمقاطع كوميدية مرتجلة ممثّلاً ومونولوجست على مسارح دمشق، وهو ما تسبّب بطرده من عائلته المحافظة، وسط مجتمع يطلق على مهنة التّمثيل أو الغناء اسم “المشخّصاتي”، وهو ما أكّده بالقول: “غضب منّي والدي، واعتبر أنّ عملي في الفنّ، يوطّي راس العيلة، وطردني”، ما اضطرّ السّبيعي إلى النّوم في الخان، أو عند فرّان الحارة، وإلى البدء بالفنّ باسم مستعار وهو “رفيق سليمان”؛ متابعاً مشواره نحو الفنّ وحيداً، متنقّلاً بين فرق فنية عديدة (علي العريس، وسعد الدّين بقدونس، والبيروتي، ومحمد علي عبدو)، مؤدّياً لشخصيات “أبو رمزي، وأبو جميل”، وفي المسرح الحر.. بدأ بتقديم مسرحيات يتخلّلها أغنيات خاصّة به، مثل (بالمقلوب – طاسة الرّعبة – مرتي قمر صناعي – صابر أفندي)، وصولاً إلى أشهر الفرق آنذاك وهي فرقة “عبد اللطيف فتحي”.. “كنت فرحا جداً وقتها، لأنّي سأتواجد في مسرح العملاق فتحي، فرحة مشوبة بالغصّة، لأنّي لن أكون مؤدّياً بل ملقّناً فقط، ولكنّي عزيت نفسي، بأنّها بداية الطّريق، ولا بّد أن آخذ فرصتي كممثّل يوماً ما” بهذه الكلمات عبّر عن تلك التّجربة، التي تعدّ حقيقة بداية مخاض ثانٍ لنجم “سـيملأ صيته دمشق بعد قليل، وسيشغل البلاد عمّا قريب”.
أبو صيّاح
وحصل هذا فعلاً.. أواخر خمسينيات القرن الماضي، إثر تغيّب الفنّان أنور المرابط عن أداء فصل كوميدي يلعب فيه دور العتّال، في عمل مسرحي مقتبس عن مسرحية مصرية للكاتب “أبو السّعود الإيباري”، نقلها عبد اللطيف فتحي إلى الشّامية، وطلب منه تجهيز نفسه لتأدية الدّور بدلاً من المرابط، لم يعرف النّوم في تلك الليلة من الفرحة، معتبراً أنّه أمام امتحان يمهّد الطّريق له صوب الحلم، استعار الشّروال وباقي الإكسسوار، ليفاجئ به المعلّم فتحي عندما شاهده على خشبة المسرح، وهو يؤدّي شخصية طبيعية كما هي تماماً في الحياة، حملت مفرداته الشّهمة الزكرتاوية وشكّلت أشهر شخصياته الدّرامية، حاملاً اسمها مدى الحياة “أبو صياح”؛ وليشاهد أداءه حكمت محسن وصباح قبّاني، مبشرين إيّاه بمستقبل عنوانه “النّجومية”، ليعقب هذا الحدث المفصلي بفترة ليست بعيدة “تأسيس التّلفزيون العربي السّوري”، وليغدو قبّاني أوّل مدير له، ويجمعه بـ “نهاد قلعي ودريد لحام”، وأوّل عمل بينهم تمثيلية “مطعم الأناقة الجوّال”، أذن بانطلاقة مسيرته التّلفزيونية معهما؛ وليكنيه البعض بـ “الفنّان الشّامل – أبو الفنّ”، و”أبو الكلّ” كما أطلق عليه آخرون، فيما أحبّ ما قيل فيه إلى قلبه “فنّان الشّعب، وأبو صيّاح”.
شرم برم كعب الفنجان
الفنّان الشّامل الذي بدأ بفنّ المونولوجات النّاقدة، عبر استماعه لأغاني عدد من الشّعراء الشّعبيين، على رأسهم سلامة الأغواني، قدّم في هذا المضمار طوال مسيرته عديد الأعمال منها (يا ولد لفلّك شال – تمام تمام هاد الكلام – شروال أبو صيّاح – لا تدور ع المال – حبوباتي التّلموذات – شيش بيش – شرم برم كعب الفنجان – يا صلاة الزّين – الحب تلت لوان)؛ لتعقبها حقبة جديدة مع الصّندوق الصغير “الإذاعة”، ومع الشّاشة الصّغيرة “الرّائي – التّلفزيون” تطرق عوالم السّبيعي الغنية، تجسّدت ببداياته في الإذاعة السورية عام 1954، ومن ثمّ ليتمّ اعتماده مخرجاً فيها عام 1960، بعد أن أنهى دورة مخرج إذاعي في معهد التّدريب الإذاعي في القاهرة، ودورة ثانية في معهد التّدريب الإذاعي في دمشق، وأخرج عديد البرامج والمسلسلات والتّمثيليات الإذاعية، إضافة إلى تمثيله أدواراً متنوعة، وكان أوّل من قدّم في الإذاعة كتاب “حوادث دمشق اليومية” لـ “البديري الحلّاق”، كما أطّل على مستمعيه عبر إذاعة دمشق مدّة اثني عشر عاماً في برنامج أسبوعي بعنوان “حكواتي الفنّ” من إعداده وإخراجه، علاوة على إطلالته في برنامج “حلو الكلام” على قناة الدّنيا “سما”.
مسرح
وفي المسرح “أبو الفنون”، قدّم “أبو الكلّ” أعمالاً كثيرة، ختمها بمسرحيتي (“مات 3 مرات” من إخراج حاتم علي 1996، و”شو هالحكي” من إعداد وإخراج سيف السّبيعي ونضال سيجري وجلال شمّوط عن نص لزكريا تامر عام 2001)، وبدأها بغزارة في السّتينات بعد مساهمته في المشاركة بتأسيس المسرح القومي السّوري عام 1960، حيث قدّم في تلك الحقبة مسرحيات من الأدب العالمي لدستويفسكي وآرثر ميلر وموليير، ومن ثمّ أعمال (“أبطال بلدنا” للمصري يعقوب الشّاروني، ومساعد المختار، وحبس الأحلام، والأشباح لإيبسن من إخراج هاني صنوبر، والبرجوازي النّبيل، ونهوند، ومدرسة الفضائح، والاستثناء والقاعدة لبريشت، والأخوة كارامازوف، والأب لحكمت محسن، إضافة إلى أوبريت “أنا انكويت” لـكميل شامبير).
سينما
كما قدّم ” فنّان الشّعب” 55 عملاً للسّينما، توزّعت بين الأفلام الكوميدية والجادّة، في القطّاع الخاص المحلي والعربي، حملت في غالبيتها النّمط التّجاري، وبين أفلام المؤسسة العامة للسّينما في سورية، بدأها أيضاً في السّتينات، منها (عملية السّاعة السّادسة – سفر برلك “مع الرّحابنة وفيروز” – غرام في اسطنبول – عنتر يغزو الصّحراء)، ليعود إلى العمل مع الرّحابنة عام 1971 في “بنت الحارس”، إضافة إلى عشرات الأعمال السّينمائية في سبعينات القرن الماضي، وصولاً إلى مطلع الثّمانينات عبر عمل “قتل عن طريق التّسلسل” إخراج محمد شاهين عام 1982، ليعقبه بـ (أحلام المدينة، وفتاة شرقية، والشّمس في يوم غائم)، ومن ثمّ انتقل إلى مرحلة سينمائية جديدة في التّسعينات، في فيلم “الليل” لمحمد ملص عام 1992، ليطرق الألفية الجديدة بفيلم صندوق الدّنيا عام 2002، وعشاق، والليل الطّويل لحاتم علي عام 2009، وصولاً إلى آخر مشاركاته في “سوريون .. أهل الشّمس” لباسل الخطيب عام 2016؛ كما أدّى أغنياتٍ أُعدت خصّيصاً لأفلام السّينما كـ (زحليقة وتلج – ليش هيك صار معنا – الأوتو ستوب)، إضافة إلى أنّه كتب أغنية “ابن العمّ” التي غنّتها شريفة فاضل، وقدّم أغنية في حب الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، حملت عنوان “لو عرفوه ح يحبوه” إثر أزمة الرّسوم الكرتونية المسيئة، ومن ثمّ أطلق منتصف عام 2016 أغنية بعنوان “لا تزعلي يا شام” من كلمات وألحان رفيق عمره سهيل عرفة.
تلفزيون
فيما بدأ ظهور “أبو الفنّ” التّلفزيوني، مع المخرجين (سليم قطاية، وعادل خياطة، وجميل ولاية)، حيث قدّم معهم برامج شعبية متنوعة مثل “ساعي البريد” لقطاية وخلدون المالح، ولتعود الشّراكة بين الثّلاثي (السّبيعي – قلعي – لحام) عبر المسلسلة التّلفزيونية “مطعم السّعادة” عام 1960، ومن ثمّ “مقالب غوار 1967″، و “حمّام الهنا 1968” وهو العام الذي شهد انتسابه إلى نقابة الفنّانين في دمشق؛ كما غنّى في ذات العقد أغنية نالت شهرة واسعة “سبعة ضرب سبعة” لخلدون المالح؛ لتحمل بعدها مسيرته عشرات الأعمال الدّرامية التّلفزيونية، لا يستطيع الشّارع العربي تفضيل أدواره في واحد منها عن الآخر، لشدة حرفيته، كيف لا!.. وهو المعلّم والزّعيم والرّسول الدّرامي الاجتماعي، الذي نذكر بعضاً من إبداعاته التّلفزيونية في (الدّروب الضيقة – وادي المسك – الخشخاش – أيام شامية – نهاية رجل شجاع – قانون الغاب – الطّير – رقصة الحبارى – دمشق يا بسمة الحزن – ليالي الصّالحية – صقر قريش – صلاح الدّين الأيوبي – أهل الرّاية – أولاد القيمرية – عن الخوف والعزلة – طاحون الشّر – قمر الشّام – حرائر – بنت الشّهبندر).
محطّة خاصّة بـ “نص خبر” .. لأوّل مرّة تُنشر
لا تزال الذّاكرة تستحضر آخر لقاء جمعني بالرّاحل الحاضر رفيق السّبيعي، أواخر عام 2015، في أحد مكاتب الهيئة العامة للإذاعة والتّلفزيون العربي السّوري، بدأت حينها بتقديم فنجان القهوة له وبإشعال سيجارته، بينما قاسيون يطلّ علينا من النّافذة، ومن دوره “طوطح” في المسلسلة الشّهيرة “طالع الفضّة” كانت الرّشفة الأولى لقهوتنا، سألته: “كيف أدّى الكبير أبو صياح هذا الدّور المركّب، الذي قال فيه عديد النّقاد والصُّحفيين، أنّ الأستاذ رفيق كان فيه فيلسوفاً، لم تكن تُمثِّل، كنت هو، كنت طوطح بحقّ .. كنتَ ….
قاطعني بابتسامة عينيه الممعنتين في ساحة الأمويين وسيف النّصر وقاسيون، وقال: “ابني أمامة.. ولدتّ في حي البزورية، المتاخم للجامع الأموي، كنّا نلعب في أزقّة تلك الحارات – أطفال من كلّ الدّيانات معاً – ، دون أن يفكّر أحدنا في دين الآخر، لم يكن أحدنا يعرف عن الآخر سوى أنّه سوري يتكلّم لغته ويحكي لهجته، الوجوه ذات الوجوه، العادات والتّقاليد ذاتها، كلّنا واحد، ببساطة.. حين قرأت نصّ العمل، الموقّع باسم الصّديق عباس النّوري وزوجته عنود الخالد، ومن إخراج ابني سيف، ابتسمت، وأحببته كثيراً، لأنّه مصاغ كما كنت أتمنّى طوال حياتي، الورق قدّم الشّخصية بكونها سورية، ملامحها قريبة من المثالية، وهذا سبب محبّتي لها، وطالما هي شخصية سورية فيستطيع أبو صياح تأديتها – هكذا قلت بيني وبين نفسي – العمل يقول ببساطة.. طوطح وكلّ من في العمل أبناء هذه الأرض، أبناء الأم “سورية”، طوطح ابن المكان الذي ولد وتربّى وترعرع فيه، جذوره ضاربة في أعماق الشّام، لا يستطيع أنفه مفارقة أنفاس الشّام، إلى جانب إلمامه بالوقائع وعاطفته وحكمته البارزة في حديثه وفي لحظات صمته، ومن خلال تعامله مع باقي شخصيات العمل، كنت سعيداً بأداء هذا الدّور الذي أتعبني كثيراً، وأنا ابن الثّمانين، لكنّ تعبي زال بعد مشاهدتي للنتائج”.
“مزيد من القهوة” سألته وأنا أهمّ بملئ فنجانه.
ابتسم .. وقال لي: “القهوة برأيي كما الحليب، كلاهما نقي، هي تعدّل الدّماغ، وتمنحه نضارته، والحليب يفيد كلّ الجسد ويعطي نضارة للبشرة والقلب معاً، أتدري.. أحسّهما كما مسلسلي أيام شامية، وليالي الصّالحية، ستسألني كيف تحسّهما كذلك، يا أمامة.. الحليب نقي كما الشّام وأيامها، والقهوة عنوان ليالي أهالي الصّالحية، الذين هم أبناء الشّام، ومزاج ونضارة القهوة والحليب معاً، يمنحنا طالع نَضِرٌ كالفضّة، طالع نقيٌ فيه التّنوع المحبّب الذي نحن السّوريون منه، وجمعه معاً يكوّن نسيجنا الجميل، الذي لا يشبهه أيّ جمال”.
“كنت في وارد أن أسألك عن أعمال البيئة الشّامية أستاذي، وها أنت تأتي على ذكرها باستحضار هذه الأعمال، التي شبّهتها بقمّة النّضارة” قلت له
قال: “أجزم أنّها الأعمال الوحيدة التي قدّمت حقيقة البيئة الشّامية، أمّا أيّ شيء سواها فهو تشويه وتزييف لبيئتنا .. هي أعمال مفبركة لعب بها ولا يزال رأس المال الخارجي .. أرجو على كلّ المعنيين بصناعة الدّراما أن يعيدوا مشاهدة أيام شامية وليالي الصّالحية وطالع الفضّة، وعلى منوالهم فقط يكون الطّرح في أعمال البيئة الشّامية، أرجوكم كفى تشويهاً لنا، كفى اغتصاباً لبيئتنا الضّاربة في جذور التّاريخ”.
“قلتَ حين مرّة.. أنّ عملاً خالياً من رسائل شبيهة بأطروحات يتعلّم من خلالها الأطفال ليس بعمل صادق، وأن الأعمال الشّامية باتت خالية من هذه الرّسائل والقيم” قلتُ له
“أجل قلتُ هذا، وأعيده، علّموا أطفالكم، وليس فقط علّموهم، بل.. وتعلّموا منهم، وعلينا أن نركّز في حياتنا ودرامانا على قيمة طرح ما يفيد أطفالنا، كما وعلينا أن نركّز وبعالي الصّوت على أنّك إن كنت تسعى إلى الصّحافة فلا تكن غيرها.. كن صحافياً وفقط، وليكن الطّبيب طبيباً وفقط، والعامل عاملاً، والفنّان فنّاناً، ولهؤلاء أوصي.. لا تبحثوا عن الشّهرة، ابحثوا عن الفنّ، الاقتناع بالبحث عن الفنّ هو كلّ النّجاح، بل.. هو الوصول إلى رأس هرم النّجاح .. هو النّهوض لكلّنا معاً .. رفيق هو فنّان فقط .. منذ عقود حين بدأت لم يكن لديّ أيّ هاجس سوى أنّي أريد أن أصبح فنّاناً .. فلنحطّم البروايز .. لنكسّر الأصنام .. لنقتنع أنّ علينا ألّا نبحث عن برواز ونتصوّر بداخله، بل لنتصوّر ونصوّر ذواتنا وكلّ ما يحيط بنا دون البرواز – حينها وفقط حينها – تكون الصّورة أجمل وأصدق وأنبل، حينها نكون نحن، حينها أنتَ تكون أنت، وهي تكون هي، وأنا أكون أنا، سأشرح لك أكثر ما أقصده.. عشت صراعاً مع كلّ الشّخصيات التي أدّيتها في حياتي إلّا واحدة منها، وهي شخصية أبو صياح، لسبب بسيط وهي أنّها أنا .. أنا رفيق السّبيعي وأنا أبو صياح .. هي الشخصية التي تمثّلني في الطّفولة والشّباب وإلى يومي هذا .. لأنّي ابن البزورية التي تتكلّم اللهجة ذاتها وترتدي تلك الملابس .. فيها لا أتقمّص شيئاً ولا يتقمّصني شيء .. فيها أكون أنا بكلّ ما بي .. استمتعت بمعظم الشّخصيات التي أدّيتها في حياتي .. ولكنّي وصلت إلى النّشوة وأنا أجسّد شخصية أبو صياح .. رفيق هو أبو صياح بالأصل .. وأبو صياح هو رفيق بالأصل .. أمّا ما أظهر عليه في الحياة والشّارع واللقاءات هو زِيِّ المدنية .. إلّا أن أصلي هو أبو صياح السّوري الدّمشقي”.
“في نظرتك أرى التّاريخ” قلتُ
“وفيها أيضاً الأمل، الأمل بشباب هذا الوطن، وبكَ يا بنيّ” قال
“والدّمعة والألم رفقة الأمل” أردفتُ
والدّمعة مرفقة بابتسامة تكسو محياه وهو ينزع نظّارته الطّبية قال: “رغم سوداوية ما نحن فيه، الأمل أكبر، وإن لم يكن كذلك، أرغمه على أن يكون، يا عزيزي أمامة.. سورية ولّادة، والوطن الولّاد لا ينكسر وإن مرض، ومن تعافت منذ بدء الدّهر حيال كل ما تعرّضت له، ستتعافى إن عاجلاً أم آجلا”.
“هل ينتابك إحساس بأن عقودك التي تقارب التّسعة، حملت في طيّاتها كلّ ما في دمشق” سألته
“بل أحس أنّي على مشارف التّسعمائة عام، وليس على مشارف التّسعين، وكذلك أحسّ أنّ ما يمنّي النّفس ويعزّيها وهي في أرذل العمر أنّها ابنة الشّام، كل الشّام وليس فقط دمشق” أجاب
“هو أنبل العمر وليس أرذله، هكذا هو لأجلك ومعك” قلتُ
صمممممت ودموع الياسمينة الشّامية الباسقة في جذور التّاريخ “أبو صياح” ودخان سيجارته يتسيّدا الموقف .. وليشير لي بعينيه ويده أن “دعنا نكمل قهوتنا ودخاننا”.
عائلة .. جوائز
التقى رفيق السّبيعي بشريكة حياته وداد سليمان في دمشق، وهي من عائلةٍ سورية كانت مقيمة في لبنان، وعملت لفترةٍ في فرقة محمد علي عبدو، تزوجا ورُزقا بـ (عامر “توفي عام 2015″، وصباح، وبشار، وصبا وهبة، وأحمد “توفي وهو في الثّالثة من عمره”، وسيف)؛ وبعد وفاة أمّ أبنائه عام 2002 بسنوات تزوّج من الممثّلة السّورية رداح رجب، إلّا أنّهما انفصلا بعد فترة قصيرة. ومُنح خلال مسيرته عديد الأوسمة والجوائز، أبرزها وسام الاستحقاق من الدّرجة الممتازة، الذي منحه إيّاه رئيس الجمهورية العربية السّورية بشار الأسد عام 2008، وجائزة أورنينا الذّهبية في مهرجان الأغنية السّورية، وجائزة أدونيا لعام 2008، كما منحته منظمة التّحرير الفلسطينية في عام تأسيسها 1964 وسام نوط الفداء، ومنحه الحزب السّوري القومي الاجتماعي وسام الصّداقة عام 2014.
“غير بحضنا ما برتاح”
“أنا سوري من أرض الشّام، وعطر الياسمين الفوّاح، مهما درت وشفت بلاد، غير بحضنا ما برتاح” نظم هذه الكلمات وغنّاها، بعد أن لحّنها سمير كويفاتي عام 2012، لتكون على هواتف مشيعيه، في جنازة حاشدة شهدتها دمشق، التي أبى أن يرتاح بغير حضنها، في الخامس من كانون الثاني/يناير عام 2017، وليوارى الثّرى في مقبرة باب الصّغير؛ وليرثيه الشّعب السوري بكلّ شرائحه وفنانيه باعتباره “جدّ الفنّانين” من البعض، و”أبو الفنّانين” من آخرين، وليقول في وداعه الشّاعر اللبناني نزار فرنسيس: “لمّا الكبار بيرحلو .. بيبطّل المشهد حلو .. يا ريت هالدّنيا فيلم .. ونرجّعو من أوّلو” .. وليقول الشّاعر اللبناني الفلسطيني زاهي وهبي: “رفيق السّبيعي .. أبو صياح .. الفطرة المبدعة في بهاء تجلّياتها، والعبق الشّامي المعتّق في خوابي العمر، والموهبة المشعّة حتّى الرّمق الأخير”. واليوم.. من أسرة نص خبر لروحه: “حاضرة فينا أبداً، ياسمينة جمعت في أغصانها رائحة الوطن، لتفوح على مَنْ وقعت عينه عليها، ولمست يده نعومتها، ولاح في أذنه ذكرها، ياسمينة باسقة حدّ أنّ الغيم يتمنّى وصولها، ياسمينة حدّ أنّ أبواب السّماء فتحت لأجلها، ياسمينة البرزخ والخلود، لروحك السّلام” .