16 سبتمبر 2023
ثارت ثائرة الغيارى على لغتنا العربية بسبب تعريب لفظة “ترند” المتداولة بعد السوشال ميديا، وبالتالي أصبح بإمكاننا اليوم إدخال ال التعريف إليها وتنوينها وصرفها وإعرابها، وفي حقيقة الأمر أجد في هذه “الغضبة” مغالاة وانغلاق وتوجّس دون داع..
أستطيع فهم الخوف على لغة القرآن والحرص الأبدي عليها، وهذا أمرً مستحقٌ لكنه مبالغ في التوجّس! فدعونا نتذكّر أن حتى الله جل وعلا، استخدم في القرآن كلمات غير عربية تأصّلت وانتقلت بالتلاقح والتحرّك لتصبح عربية بعد جريها على الألسن، مثل سندس واستبرق وسجّيل وغيرها من الفارسية، ومشكاة من الهندية والقسطاس والسجنجل من الرومية وغير هذا الكثير، رغم أن كتابنا الكريم يعلن بكل حزم ووضوح أنه نزل “بلسان عربي مبين”. أي أن تلك الكلمات تعرضت للتعريب، والتعريب هو: أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي، فتصبح عربيةً بعد قياسها على وزان الألفاظ العربية، وتفعيلاتها. وإن خالفت الصرف والتفعيلات أو لم توافق أي وزن من أوزان العرب، عدلوا فيها بحرف يزيدونه أو ينقصونه لتصبح على وزان تفعيلاتهم، وفي هذا يقول سيبويه: “كل ما أراد العرب أن يعربوه، ألحقوه ببناء كلامهم”.
هذا التوجّس لا نراه في اللغات الأخرى، فقد أخذت الإنجليزية منا أكثر مما يحصى في هذه العجالة، أشهره: cipher من الصفر، Alcohol من الكحول، Chemise أي قميص، Emir وأصلها أمير، وكذلك القطن والكركم والزعفران والجبر والزرافة والاخطبوط والجبس والسلطان والجن والسفر والتبغ والأسطورة هي ذات الكلمات بلغتين إلى جانب الكثير.
وفي الفرنسية والإسبانية حدّث ولا حرج بحكم الاحتكاك المتواصل والقديم، فرتبة الملازم تعني في الإسبانية Alferez وقد جاءت من الفارس، والزيت يعني لديهم Aceite والطليعة تعني ذات الكلمة Atalaya ، والقلعة بالإسبانية Alkala حتى أُحصي 4000 كلمة إسبانية مأخوذة من العربية.
والفرنسية اللصيقة بالإسبانية حركت لغتها وطعمتها بالعربية بشكل ناضج وكبير أيضاً، فخذ مثلاً: عسكري تعني بالفرنسية Askari والأمان يعني بالفرنسية Aman والحصان Alezan والحمار Hamer والغزال Algazelle والقهوة Café والفلاح Fellah وكذلك فندق وفلقة والزرافة والغول والطبيب والجبل هي هي في اللغتين، بل حتى أن الفرنسيين أدخلوا حديثاً كلمة “بزّاف” المغربية بنفس المعنى التي تشير إلى الكثير ولفظ “كيف كيف” التونسية بنفس التون والنغمة والمؤدى الذي يعني التشابه.
“سلفيو” اللغة حفظوا لغتنا العبقرية بألسنتهم لا بأفئدتهم، ونسوا أنها ليست المرة الأولى التي ينفتح فيها معجمنا العربي باتجاه الكلمات الدارجة على الألسنة من الفارسية والإنجليزية والكردية والهندية وغيرها، فقد دخل الكثير الكثير من الكلمات منذ الجاهلية حتى اليوم إلى لغتنا العربية، ومن المتداول بيننا اليوم من الألفاظ غير العربية: شرشف ومشوار ومهرجان وونش ودفتر وشاكوش وديكور وديكتاتور واستمارة ومساج ومزراب وخان ومصطبة وتخت وطازج وبللور وكرباج وكفتة وكوبري وأستاذ وأريكة وإنفلونزا وغيرها..
أود أن أقول إن اللغة هي بالأصل تصوّرٌ منطوق، وبالتالي يأخذ هذا التصوّر دلالاته من ناطقه، لهذا قد نجد كلمات متصلة بين اللغات لا ينفع معها إلا نطق أصلها. مثل “أوبرا” وهي فن غنائي إيطالي، تلقّفنا لفظه كما هو، مثلما تلقّف الغرب منا مخترعاتنا كعلم الجبر مثلاً. أيضاً لا بد من الإشارة إلى أن هنالك فقه للغة، وفقه اللغة هو البحث في دلالاتها وإحالاتها وطبقات معانيها المتعددة، فقد تكون كلمة التفّاح بالنسبة لي لا تعني ذات الدلالة بالنسبة لك!
في كتابه “غيرة اللغات” -وأنا أنصح بقراءة هذا الكتاب الذي صدر مترجماً عن دار فواصل بشدّة وإلحاح- يقول الكاتب الأرجنتيني الأصل والإيطالي النشأة أدريان برافي: إن كلمة “الوزغ” في الإسبانية تعني لي غير ما تعنيه في الإيطالية، إنها في الإسبانية تشير إلى الحنين والطفولة والشقاوة حينما كنا نقطع ذيلها ونركض وراءها، أما الوزغ في الإيطالية فكلمة جافة تفتقر إلى هذه الحصيلة من الذكريات.
هذا يحيلنا إلى كتابنا الأشهر لغوياً “لسان العرب” لابن منظور، الذي يشتقّ معناه من اسمه، أي: ما جرى على ألسنة الناس العرب. وقطعاً سنجد فيه من غيرة اللغات الكثير، اللفظ المتداول والمتحرّك بين لغات عدة.
خلاصة القول؛ إن اللغة العربية لم تكن يوماً سجينة ثقافتها الجوّانية وحسب، بل كانت تتحرك في محيطها الواسع، تأخذ من الفارسية والأوردية والتركية والعبرية وغيرها، وتعيد ترتيبها بما يتوافق مع لسان العرب ومنطوقه. وها نحن اليوم نضيّق عليها مجدداً في نقل المعارف والعلوم الجديدة.
اتركوا اللغة تستمّد أسباب تقدّمها فلا خوف على واحدة من أبدع لغات البشرية وأكثرها عبقريةً.