هجرة العقول العربية والإسلامية

 

سلمان بن محمد العُمري

أحد الأصدقاء طبيب فرنسي من أصول عربية يعمل في الرياض منذ أكثر من عقدين روى لي مرة قصة مضحكة محزنة فقال: حينما كنت أدرس الزمالة في فرنسا وقبل الحصول على الجنسية الفرنسية نظمت كلية الطب في جامعتنا مؤتمراً في إحدى الدول العربية بالتعاون مع إحدى الجامعات هناك وقد تم بعث اسمي ضمن قائمة المرشحين للحضور لأنني مشارك مع أستاذي ببحث طبي جماعي وكان الرعايا الفرنسيون يدخلون هذا البلد بدون (فيزا) فيما كان يلزم علي مراجعة السفارة العربية بباريس للحصول على تأشيرة الدخول، وحينما راجعت السفارة فوجئت بعد عدة أيام برفض منحي الفيزا ولم يذكر سبب معين رغم أني أحمل كتاباً يفيد المشاركة من الجامعتين وأنني أحد الباحثين، وعدت لأستاذي في الكلية وأخبرته بما حدث فلم يتردد بالاتصال بنفسه بالسفير العربي ويبلغه بأنه في حالة رفض منحي التأشيرة فإنه سيطلب من الجامعة إلغاء المؤتمر فما كان من السفير سوى الاعتذار للجامعة وأن هناك لبس، وأنه يعتذر أيضاً لي ويطلب أن أراجع السفارة بأقرب وقت، ويقول ليت الأمر كان يتوقف على هذا فحسب فحتى بلدي الأصلي حينما كنت أزوره في الإجازات لقيت من العاملين في المطار سائر أنواع الصلف والإهانة، وبعد أن حصلت على الجواز الفرنسي تغيرت المعاملة ذهاباً وإياباً وصرت أعامل بدرجة فائقة في الاحترام.

هاتان الحالتان تشخصان سبباً من أسباب عديدة لهجرة العقول العربية والإسلامية من بلدانها مع جملة أسباب أخرى عديدة في مقدمتها أن الإنسان في كل زمان ومكان يسعى إلى تحسين أحواله المعيشية ورفع مستوى الحياة الخاصة به وبعائلته وتلافي كل الظروف والعوائق التي تواجه تطوير قدراته وتحسين مستوى معيشته، ولذا نرى هجرة العلماء والباحثين وإن شئت فقل الأدمغة العربية والإسلامية على وجه الخصوص إلى الخارج أو البقاء في البلد الذي تلقوا العلم فيه واتخاذه موطناً جديداً لهم، والبحث عن تطوير معارفهم العلمية، ومهاراتهم العملية، ورفع مستوى الدخل لهم حتى أصبحت ظاهرة منذ ما يزيد على ستة عقود، وكما ذكرت فلهذا أسباب عديدة وهي مشكلة قديمة أملتها ظروف متباينة من بلد إلى آخر فمنها المعيشي، ومنها العلمي، ومنها الأوضاع السياسية والأمنية، وفي المقابل لم تتكلف عليهم الدول المستضيفة أو تتفضل عليهم فقد كان الضيوف يقدمون خدمات ومهام علمية وعملية جليلة وتفوقوا على أبناء البلد الأصليين في مهامهم واختصاصهم، ولا أدل على ذلك من الموقف الذي حصل مؤخراً في أكبر مركز للبحوث الطبية في باريس ومع رئيس الوزراء الفرنسي الذي فوجئ بأن معظم الباحثين من المهاجرين العرب والمسلمين، بل وهناك من الأطباء المهاجرين من قدموا التضحيات بأرواحهم حيث إن العديد من الأطباء العرب والمسلمين الذين توفوا في حادثة كورونا نتيجة تضحياتهم وأعمالهم الإنسانية النبيلة مع المرضى في المستشفيات، فالآلاف من الأطباء المسلمين يقفون الآن في الخطوط الأمامية لمكافحة هذا الوباء (مثلهم مثل غيرهم).

لقد أكدت أزمة كورونا قدرة الكفاءات المهاجرة فهذا أيضاً المدير التنفيذي للشركة التي تملك أهم كارت في مواجهة فيروس كورونا (جهاز التنفس الصناعي Ventilator) رجل مسلم اسمه عمر أشرق قد أعلن عن تبرع شركته الأيرلندية MedTronic بحقوق الملكية الفكرية لهذا الجهاز ومنحها مجاناً لكل دول العالم التي تريد إنتاج هذه الأجهزة لإنقاذ أرواح أكبر قدر ممكن من البشر، كما أن فريق جامعة جون هوبكنز الذي يسعى لإنتاج أسرع testing kit لتشخيص فيروس كورونا تقوده طبيبة مصرية، وهناك أمثلة عديدة ليس في الطب لوحده ولكن في كافة المجالات الطبية والتقنية والزراعية والاقتصادية ولكنني استشهدت بالقطاع الصحي بعد أن عايش الجميع تداعيات وآثار وباء كورونا العالمي.

ونحمد الله عز وجل أن أبناء هذه البلاد من الذين يتلقون تعليمهم في الخارج رغم ما يتلقونه من عروض مغرية للعمل في البلدان التي تلقوا العلم فيها وبعد أن أثبتوا مهاراتهم وقدراتهم، ولكنهم رفضوا ذلك لما يتوافر لهم من أحوال وظروف معيشية طيبة مع إيمانهم بواجبهم الوطني وردهم الجميل لبلادهم فكلهم ولله الحمد درسوا على حساب الوطن في حين أن الآخرين درسوا على حسابهم الخاص أو منح دراسية من الدولة المضيفة، كما أن أبناء الوطن لم ينسوا واجبهم الإنساني خلال هذه الأزمة فجميع طلاب الدراسات العليا في القطاع الصحي والزمالة الذين يدرسون في الخارج تطوعوا للعمل في المستشفيات بالخارج وبلا مقابل ولم يفضلوا البقاء في المنازل.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن ألم يحن للدول العربية والإسلامية أن تلتفت لأبنائها من ذوي التخصصات وتعمل على تهيئة الظروف الملائمة لعودتهم، وبذل السبل لعدم خسارة كفاءات أخرى قادمة.

** **

alomai1420@yahoo.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.